تونس.. سيرورة التحديث وسلطة المقدّس

20 اغسطس 2018
+ الخط -
ألقى تقرير الحريات الفردية والمساواة (في تونس) بأكثر من حجر في مياه راكدة، فجاءت ردود الفعل متباينةً، وتواترت القراءات معلنةً مواقف مختلفة. وكان من الطبيعي أن يكون كل ذلك، فبعض هذه القراءات رأت التقرير نزوعا قسْريا للتحديث، تقوم به الدولة، بحكم مكانتها وإمكاناتها ومرجعياتها التاريخية والدستورية. ورأى آخرون أن تركيبة اللجنة التي كلفها رئيس الجمهورية بإعداد التقرير لا تمثل مكوّنات المجتمع التونسي، وخصوصا في ما يتعلق بتضاريس حالته الدينية (مؤسسة الزيتونة). وذهب فريق آخر إلى التحاليل اللغوية، مؤكّدين أنه لا يجوز تغييرعبارة الفاحشة مثلا بالاعتداء الجنسي، ذلك أن للكلمات ذاكرة سحيقة، تشكل وجدان مستعمليها، كما يقول اللغوي الفرنسي رولان بارت. كما أن ردودا متوترة انطلقت من البيانات، وتكرست في الشارع بالتظاهرات والمظاهرات، وهي ردود تدفعها مرجعيات أيديولوجية، وذات منحى ديني تحديدا. وأمام ذلك كله، حسم رئيس الجمهورية، الباجي السبسي، الموقف، ووضع الأمور في نصابها بإحالة نقطة واحدة، المتعلقة بالمساواة في الإرث، إلى البرلمان، على أن يتواصل الحوار والنقاش حول مجمل النقاط الأخرى التي يقترحها التقرير.

وفي قراءة مجمل ردود الفعل، يلاحظ أن هنالك من يتصوّر تونس جزيرة معزولة، لا تربطها مواثيق دولية، ولم تنخرط في منظومة حقوق الإنسان الكونية، ولا تنتمي إلى ثقافة المساواة والمواطنة، فهذا التوجّه تحكمه مرجعياتٌ فكريةٌ، أهمها ثقافة الأمة والقبيلة والحزب.. لم لا؟ حيث تغيب الفردانية، وتتكرّس سلوكيات الجماعة والعرف، وصولا إلى تحريم الخروج عن السائد، ناهيك عن هتك هذا السائد وخلخلته. وهنا ينسى القائمون على هذا التيار المسيرة الإصلاحية التي سارت فيها الدولة التونسية، وعزّزتها لبنةً لبنةً، منذ صدور أول دستور تونسي قبل قرنين ونيف، وإلغاء الرق، وصولا إلى الطاهر الحداد والحبيب بورقيبة، وتاريخ 13 أغسطس/آب 1956، حيث تم الإعلان عن إصدار مجلة الأحوال الشخصية التي كانت ثورة اجتماعية في تونس، وفي الوطن العربي والعالم الإسلامي، كما كانت منطلقا لمشروع تحديثي مجتمعي، أراده الآباء المؤسسون، وفي مقدمتهم الزعيم بورقيبة، لتونس، بما سنّوه من أنماط ثقافية وتربوية واجتماعية..
لم تلغ هذه الثورة المرجعيات الدينية للمجتمع التونسي. وعلى عكس كمال أتاتورك في تركيا، فإن الزعيم بورقيبة كان يؤمن أن الدين عامل أساس لتوازن المجتمعات، وهذا ما جعله يعلن، في مؤتمر الاتحاد القومي للمرأة التونسية يوم 13 أغسطس/ آب 1960: نعتقد أن الدين وكل الأديان جعلت لمصلحة البشر، وبالخصوص الدين الإسلامي الذي نعتبره صالحا لكل زمان ومكان، لا يمكن أن يعطل أو يعرقل عملا فيه تقدم ورفع مستوى ومدنية. لذا قلنا لنتوكل على الله ... هناك أناسٌ سنتصادم معهم، وخاصة المشايخ المتزمتين ونفوذهم وتزلفهم لفرنسا زمن الحماية. هذا لا نخاف منه ونعرف الفتاوي التي يصدرونها، لكي يذهب المسلمون للحرب مع فرنسا.. هؤلاء سيهجمون علينا وسيكفّروننا".. قد يكون هذا وغيره سببا جعل بورقيبة يؤجّل مسألة المساواة في الإرث، إلى حين أن تتغيّر العقول، ويمضي المجتمع التونسي بعيدا ثقافيا وتربويا.
وما يهم هنا إبرازه، والتأكيد عليه أن تقرير الحريات الفردية والمساواة لم يأت من الفراغ، وأن رئيس الجمهورية الذي اقترحه، في هذا الظرف بالذات، يعلم جيدا أن الأمور ستُجابه بما جوبهت به. وكان متمنّى أن تدار حول هذا التقرير نقاشاتٌ وحواراتٌ، تعتني بأبعاده الحضارية والثقافية. ومن ذلك مثلا سلطة المقدّس ومكانتها في ثقافة مجتمع عربي مسلم، ذلك أن المقدّس كيفما كان، وهو معتقد إيماني تُبلوره ممارسات ثقافية، يكون بما يتضمّن من مفاهيم وقيم وتعاليم صمّام أمنها، إذ يشكل وجدان الإنسان ويحفظه، ويبعث الطمأنينة في أعماقه، وهو يواجه قلق الحياة، وما قد يعاني فيها من توتر وقسوة. وبذلك، يحمي صحته النفسية أمام تأثير العوامل المادية، وما يتصل بها من مشكلات وآفات، وما قد تفضي إليه من أحوال اجتماعية متردّية، لا تلبث أن تتفاقم، متغذيةً بظروف معاناة أخرى، لتنتج التطرّف والعنف، وتنشر الرعب والإرهاب، كما هو حادثٌ في أنحاء مختلفة من عالمنا المعاصر.

المقدّس في النهاية نظام متكامل ومتناسق، تلتئم فيه العقيدة والشعيرة بالفكر والإحساس والسلوك، ما يتبع الحياة عامة، ويمنحها الطعم المستساغ، ويتيح لها أسلوبا للتصرّف الذاتي، ولإيجاد علاقاتٍ مع الآخر. ويذهب المنظّرون للمقدّس، على غرار الباحث المغربي عباس الجراري، إلى أن الانسجام بين المقدّس والثقافة تذوب معه الفوارق بين العقل والقلب، أو بين العلم والإيمان، أو بين الدنيا والدين، كما أنه بهذا التوازن تزول الحيرة التي تساور الإنسان أمام القضايا وتعقيدات الحياة والوجود المختلفة.
المقدّس في كل التنظيرات الأنثروبولوجية، وفي كل الثقافات، وكيفما كانت أشكاله وتجلياته، دينية أو عرقية أو ثقافية، له سلطة شديدة الوقع على معتقديه. وبالتالي، فإن خلخلة هذا المقدّس، أو محاولة تجاوز منظومته، مغامرة لا تحسب عواقبها. ومن هنا، فإن سيرورة التحديث التي جاء بها تقرير الحريات الفردية والمساواة كان لا بد أن تصطدم بهذه السلطة التي هي فينا ثقافيا، ولا نراها أحيانا، فلا نقدّر الصدمة، وسيناريوهات التعايش معها.
التقرير بداية الطريق، والمؤمل تعميق القراءات الثقافية والحضارية حوله، والنأي به عن التوظيف الحزبي السياسوي، والقراءات الشعبوية، لأنه في النهاية ليس تقرير رئيس الجمهورية، ولا تقرير اللجنة التي أنجزته، وإنما هو شأنٌ وطني، يهمّ كل التونسيين.
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
محمد أحمد القابسي

كاتب وأكاديمي وشاعر تونسي

محمد أحمد القابسي