تونس تُعيد تشكيل المشهد السياسي على وقع الأحزاب

25 نوفمبر 2014
نالت الشخصيات المستقلة أرقاماً ضئيلة (فتحي بلعيد/فرانس برس)
+ الخط -
قدّمت الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية التونسية، دروساً سياسية كبيرة، لعلّ أهمّها، انكباب التونسيين على إعادة تشكيل المشهد السياسي المؤهل لتأدية الأدوار الرئيسية في المرحلة المقبلة. وذلك بعد أن أبعد الناخبون شخصيات ورموزاً سياسية كبيرة من المشهد، ولو مؤقتاً، ونصبوا شخصيات أخرى في معادلات مركّبة، تستدعي اختباراً سياسياً جديداً للأحزاب، ومرشحي الرئاسة.

وأظهرت الانتخابات ونتائجها أن التونسيين يبحثون في كل محطات الاقتراع عن خلطات سياسية، تتيح "الحكم التوافقي التشاركي"، الذي يمنع لوناً سياسياً ما من الحكم بمفرده، ولو كان القانون يسمح، لفرض التونسيون، ربما، رئاسة مشتركة أيضاً.

ولا يبدو هذا الأمر غريباً أو مفاجئاً، فقد حافظ تصويت التونسيين، على الوتيرة عينها، منذ انتخابات "المجلس التأسيسي" في سنة 2011، حين فرضوا على "حركة النهضة" تحالفاً علمانياً وتنازلات جوهرية، أدت إلى كتابة دستور توافقي.

وأعادوا تأكيد خياراتهم في الانتخابات التشريعية الأخيرة، التي جرت في 26 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بعد تقييمهم السلبي لحكم الترويكا، من دون إقصاء "النهضة"، مكوّنها الأساسي. وكرّست الانتخابات الرئاسية، يوم الأحد، تمديد فترة النقاش العميق حول تشكيل المشهد السياسي الجديد برؤوسه الثلاثة. علماً أن جزءا مهمّا من التونسيين حاول إدخال نوع من التوازن السياسي، في مقابل جزء اختار قراءة فرضيات العمل السياسي وجدواه في المرحلة العتيدة.

وانشغل التونسيون، منذ مساء الأحد، في الحديث، عن النتائج المخيبة لكلٍّ من زعيم الحزب "الجمهوري" أحمد نجيب الشابي، وزعيم حزب "التكتل" ورئيس المجلس التأسيسي، مصطفى بن جعفر. وعلى الرغم من إبداء البعض أسفه لابتعاد وجهين بارزين في الساحة السياسية التونسية، لم يرتكبا أخطاء جسيمة سياسياً، إلا أن نتائجهما عكست رغبة تونسية عامة، في البحث عن ملامح جديدة في الشخصيات السياسية التي يريد لها التونسيون احتلال صدارة المشهد.

ولم يستثنِ التونسيون من "إيلامهم" الهاشمي الحامدي وكمال مرجان ومنذر الزنايدي وبقية المرشحين المستقلين، الذين، وحسب ما بيّنت نتائج الانتخابات، سقطوا ضحية ثقة الناخب التونسي بالمؤسسات الحزبية الكبيرة، أقلّه في هذه المرحلة.

في المقابل، شهدت الانتخابات، صعوداً لافتاً لـ "الجبهة الشعبية اليسارية"، وزعيمها حمة الهمامي، الذي سيلعب دور الحكم في الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية، بفضل نسبة الـ10 في المائة التي نالها في الجولة الأولى. يُمكن للهمامي ترجيح كفة على أخرى، عكس ما يردّد كثر من أن موقف "النهضة" هو الحكم النهائي في الدورة الثانية، خصوصاً مع تأكيدها أنها ستغيّر موقفها "الحيادي" قريباً.

ولا يبدو هذا الرأي خالياً من منطق، فتفعيل الماكينة الانتخابية النهضوية، يُمكن أن يؤدي دوراً مهماً في المرحلة الثانية، وإن أكدت تسريبات كثيرة، حضورها في الجولة الأولى. ولا يمكننا في كل الحالات، إغفال أن جزءاً من التونسيين منحوا "التيار الوطني الحر"، بزعامة رجل الأعمال الثري سليم الرياحي، دوراً مهماً في المشهد الجديد، على الرغم من تراجع أحلامه الكبيرة في العبور إلى الدور الثاني كما كان يؤكد.

أما نتائج حزب "المؤتمر من أجل الجمهورية"، فكانت مخيّبة إلى درجة كبيرة في الانتخابات التشريعية، ولم يتمكن من حصد مقاعد تؤهله لتأدية دور حقيقي في المشهد النيابي والسياسي الآتي، غير أن نتائج الرئيس المنتهية ولايته المنصف المرزوقي، التي حصدها، الأحد، تقود إلى الاستنتاج الحتمي بأن المرزوقي (مؤسس الحزب ورئيسه الشرفي)، استطاع أن يقنع بخطابه جزءاً مهماً من التونسيين، على الرغم من احتفاظه بخطاب حزبه.

وهو ما يعني أن هذا الجزء من التونسيين، فضّلوه على حزبه، واقتنعوا بنفس الأفكار على لسانه، ما قد يسمح للحزب، في التحوّل إلى حزب رئاسي، إذا نجح المرزوقي في الجولة الثانية، وإذا أراد أن يعيد بناء الحزب على القواعد الجديدة التي التفّ حولها جمهور معتبر من التونسيين.

ومع أن كثراً أكدوا أن جزءاً كبيراً من قواعد "النهضة" والشباب التي دعمت المرزوقي، وجدت فيه تعبيراً عن "قطعيّتها" ورغبتها التلقائية في الحسم مع جزء من الماضي، في مقابل ارتخاء مواقف "حركة النهضة" وتعقُّد حساباتها السياسية.

ستسمح تلك الحالة، بمنح المرزوقي زخماً سياسياً حقيقياً، يُمكن البناء على أساسه في الفترة السياسية المقبلة، إذا ما أضفنا إليه نجاحه في إعادة تجميع شتات الحزب الذي تفرق في السنوات الأخيرة. ويبقى السؤال الحقيقي المطروح في شأن الرئيس المنتهية ولايته، هو المتعلق بقدرة هذه المكونات مجتمعة، أن تقوده إلى الفوز في الجولة الثانية أمام منافس قوي مثل الباجي قايد السبسي.

استفاد السبسي، من عدم تغيّر موقف التونسيين كثيراً، بين الانتخابات التشريعية والانتخابات الرئاسية. إذ بلغت الأرقام الممنوحة لحزب "نداء تونس"، في الاستحقاقين الانتخابيين، نحو 40 في المائة، مع هامش طفيف من الزيادة أو النقصان بحسب الاستطلاعات.

ويجمع المراقبون أن الأرقام ممنوحة أساساً للسبسي لا للحزب، فبين الشخص والحزب تماهٍ إلى حدّ الذوبان، وهو ما يستغله المنافسون للإشارة إلى أن المؤسسة قد تتضرر بمجرد خروج الشخص، غير أن هذا التماهي يصحّ أيضاً على المرزوقي، وعلى عدد من الأحزاب الأخرى التي تعتمد على مؤسسيها.

ويؤكد المحللون أن فوز الباجي النسبي في التشريعية وتقدمه في الرئاسية، ينبع أساساً من تركيزه على الدفاع عن فكرة "استعادة الدولة ونجاعة المؤسسات"، وهو ما يُترجم عند الرأي العام بحلول قريبة للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية المتراكمة.

ويبدو أن هذه الحاجة الشعبية تتقدم على الاحتياجات السياسية المطلقة، وإن كانت نسبة كبيرة من التونسيين أثبتت من خلال التصويت للمرزوقي، أن "السياسة" تبقى من أولوياتهم أيضاً، ولو في المرتبة الثانية، تماماً كترتيب شعار الثورة التونسية "خبز، حرية، كرامة وطنية".

المساهمون