لكن تفتت مشهد التوافق بدأ قبل ذلك بكثير، اذ غادرت أحزاب كثيرة حكومة الوحدة الوطنية واتفاق قرطاج (وثيقة تضمنت خطوطاً عامة للسياسات الاقتصادية والاجتماعية فضلاً عن الأولويات لحكومة الوحدة الوطنية).
ويعتبر كثيرون أن التوافق هو في الحقيقة اتفاق براغماتي بين حزبي نداء تونس والنهضة فقط، تشكل حولهما مشهد سياسي مركّب لم يتمكن من الصمود كثيراً، ولم ينجح بالخصوص في تحقيق شيء ملموس للتونسيين، وقاد إلى مزيد من التوتر الاجتماعي والإخفاق الاقتصادي الذي يجري التعامل معه دائماً بمجرد تغييرات سياسية حكومية لا تفضي إلى نتائج مهمة في الحياة اليومية وفي آمال التونسيين، ما قد يعزز رغبتهم في التغيير من ناحية، ويفتح بالتالي مجال المناورة السياسية أمام المتصارعين على الحكم من ناحية أخرى. لكن حتى التوافق بين النهضة والنداء، الذي نجح في الإبقاء على حد أدنى من الاستقرار السياسي، لم يكن عميقاً وكان شكلياً لدى أنصار الفريقين، رغم كل التنظيرات التي حاولت أن تجد له أرضية نظرية تمكنه من الاستمرار. ويبدو أنه وصل إلى مداه الأقصى وبدأ يبشر بنهايته بوضوح منذ انتخابات ألمانيا (يتضمن البرلمان التونسي مقعداً عن "دائرة" ألمانيا ويخصص للتونسيين الموجودين في ألمانيا ويجرى الاقتراع في القنصليات التونسية في مدن برلين وبون وهامبورغ وميونخ).
وخلفت انتخابات ألمانيا دعوات صريحة لإنهاء هذا التوافق السياسي وفك الارتباط والبحث عن صيغ أخرى، رأى البعض أنها غير واقعية، لأنها غير متاحة برلمانياً وحكومياً في الوقت الحاضر، وهو ما يفسر بالتحديد ملامح الفترة القريبة المقبلة.
وشهدت الأسابيع الماضية توتراً كبيراً بين "النهضة" و"النداء"، تزامناً مع مناقشات التمديد في عمل هيئة الحقيقة والكرامة، إذ تحولت قبة البرلمان إلى مواجهة سياسية بين الفريقين، أو جزء من الفريقين بشكل أدق، وجهت خلالها بعض القيادات النهضوية المحافظة أو المتشددة هجمات قوية باتجاه رئيس البرلمان، الندائيّ، محمد الناصر، وحتى رئيس الجمهورية، ما اعتبر هجوماً من داخل "النهضة" على التوافق الذي يقوده رئيس "النهضة" راشد الغنوشي ورئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي، ومحاولة ضرب الاثنين معاً.
وكان السبسي غاضباً جداً من ذلك الفصل السياسي، برغم أن الغنوشي ومكتبه التنفيذي عبرا رسمياً عن رفضهما لاستهداف رموز البلاد تحت أي عنوان، إلا أن السبسي تناسى أيضاً أن فريقه كان السباق في استهداف هذا التوافق بعد انتخابات ألمانيا، لكن في كل الحالات، فإن ذلك المشهد عكس صراحة ما تفكر فيه القيادات الوسطى والقواعد من الفريقين، وبما يؤشر إلى بداية فصل جديد من العلاقة بينهما.
لكن بالعودة إلى فك الارتباط، وشروطه السياسية والواقعية، يتبيّن أن كلفته في الحاضر عالية، أو هي غير ممكنة أصلاً، لأن "النداء" فقد عدداً من حلفائه المحتملين في الساحة السياسية وفي البرلمان، ما يستوجب البحث عن أشكال جديدة من التحالف، ربما تتهيأ ظروفها بعد الانتخابات البلدية وتوضح نتائجها نهائياً، ما قد يوفر أسباباً موضوعية لجمع الشتات مرة أخرى وتشكيل قاعدة عمل جديدة.
وعلمت "العربي الجديد" أنه توجد تحركات ولقاءات سرية تتم بين بعض مكونات المشهد السياسي إعداداً للمرحلة المقبلة على قاعدة تحالفات قد تعود ببعض الغاضبين إلى التفاهمات الجديدة.
لكن هذه الأسئلة جميعها تمثل في الواقع استعداداً لمرحلة لما بعد انتخابات 2019، ولما يمكن أن يكون عليه المشهد الجديد، ولذلك انطلقت الدعوات للتفكير في تغيير النظام الانتخابي على قاعدة الدورتين، أي انتخاب أغلبية واضحة على دورتين تتمكن من الحكم دون تحالفات معطّلة، وهو ما يعني بالنسبة إلى بعض القيادات النهضوية محاولة لاستبعادها من المشهد عبر ما يسمى بالتصويت المجدي، لكن المشكلة هي أن تغيير هذا النظام الانتخابي ينبغي أن يتم قبل انتخابات 2019، أي أن يفرز البرلمان الحالي شكل البرلمان الجديد، وهنا تكمن العقدة تحديداً، فكيف سيتم التفاهم حول هذا الملف في ظل مناخ عدم ثقة متبادل بين الفريقين، وكيف يمكن طمأنة الجميع بأن مصلحة البلد، قبل الأحزاب، تكمن في الإجماع على هذا التغيير، وهل يمكن أن يكون عدم التفاهم حول هذه القضية مدخلاً إلى تغييرات سياسية ودستورية بالقوة.
عموماً، يرجح بعض المراقبين أن تكون الحكومة الجديدة، بالشاهد أم بدونه، مؤشراً محتملاً حول شكل المرحلة المقبلة، لكن الانتخابات المحلية، وشكل الحملات التي تسبقها، ستمثل المؤشر الأكبر الذي قد يوضح رؤى الفرقاء ويساهم في تحديد خياراتهم.