طوى التونسيون مع وداع الرئيس الباجي قائد السبسي إلى مثواه الأخير، أمس السبت، مرحلة سياسية كان أبرز ناسجيها وصنّاعها، لتبدأ بالضرورة مرحلة جديدة مختلفة، وإن كانت قصيرة نسبياً، لأنها ستنتهي بالانتخابات التي يُتوقع أن تفرز واقعاً سياسياً جديداً. وعلى الرغم من أن صلاحياته الدستورية كانت محدودة، إلا أنه عرف كيف يمسك بكل الخيوط، يديرها بحنكة وخبرة، يضع الاستراتيجيات، يعقد الأحلاف السياسية وينهيها، يشكّل الحكومات ويغيرها، يفاجئ منافسيه وحلفاءه باستمرار بمبادرات جديدة، حتى أصبح منبع الحركة السياسية في تونس ومرجعها الذي يحدد إيقاع المشهد العام.
وشكّل السبسي، السياسي أكثر من الرئيس، عماد السنوات الثماني الماضية، بداية بترؤسه الحكومة بعد الثورة والوصول إلى الانتخابات الحرة الأولى في 2011، ثم بتأسيسه لحزب "نداء تونس" الذي غيّر المشهد الذي أرسته الترويكا بقيادة حركة "النهضة"، ثم الحوار الوطني وتشكيل الحكومة المحايدة وصولاً إلى انتخابات 2014 التي بوأته صدارة المشهد. وبعدها فاجأ الجميع بالتحالف مع "النهضة" على مدى ثلاث سنوات تقريباً. وفرض هذا الأمر الواقع على الجميع، لكن تراجع حزبه بسبب الخلافات أفقده كثيراً من التوازن والتحكّم في المشهد، وبدأت تتشكّل جبهة جديدة بين "النهضة" والقوة السياسية التي أسسها رئيس الحكومة يوسف الشاهد، والتي تحمل اليوم اسم حزب "تحيا تونس"، ومن معهما من بقية الأحزاب.
ولكن رمزية السبسي، على الرغم من تراجع تأثيره، جعلت المشهد في حالة توازن وترقّب دائم، قسمت القوى إلى اثنتين. وبرحيله يختل هذا التوازن اليوم وتفرغ الساحة السياسية من أهم لاعبيها. لكن منافسيه لن يكون بإمكانهم استغلال هذا الغياب لصالحهم مطولاً، إذ سيذهب الجميع مباشرة إلى انتخابات رئاسية قريبة، في 15 سبتمبر/أيلول المقبل، وهم متنافسون، وسيتشكّل مشهد جديد بالضرورة ما بعد الانتخابات وسيفرز ميزان قوى جديداً ستتضح ملامحه عند ظهور النتائج.
رحيل السبسي سيطلق أحلام كثيرين كانوا يعتبرونه عقبة أمام طموحاتهم الشخصية والحزبية، وستكون له أيضاً تأثيرات كبيرة على ما تبقى من حزبه، "نداء تونس"، ونجله حافظ قائد السبسي. ولا يمكن التنبؤ إذا كان هذا الرحيل سيكون لصالحهم أم العكس، فموجة التعاطف الكبيرة مع الرئيس قد تشكل دافعاً سياسياً وانتخابياً مهماً، وربما كانت لتكون فاصلة في الانتخابات لو كانت شقوق "النداء" متجمعة. ولا يُعرف أيضاً إذا كان المنافس الرئيسي للسبسي وحليفه السابق، حركة "النهضة"، ستتعامل مع هذا الفراغ بشكل جيد، فقد كان أكبر داعميها في الخارج والداخل، وقد يولد هذا الفراغ حالة من انعدام التوازن داخلها أيضاً، وقد ترتبك حساباتها، وربما تزيد طموحاتها بما لا يتلاءم مع المقتضيات الإقليمية والدولية، ومع حقيقة حجمها الذي ستبيّنه نتائج الانتخابات المقبلة.
في جانب آخر، سيؤدي تغيير المواعيد الانتخابية في تونس، بعد وفاة السبسي، إلى تغيير استراتيجيات انتخابية لعدد من الأحزاب التونسية، وسيدخل على برامجها لغط كبير ويدفعها إلى وضع مخططات جديدة على ضوء المتغيرات. وأعلنت الهيئة المستقلة العليا للانتخابات في تونس عن تغيير موعد الانتخابات الرئاسية، وتقديمها إلى 15 سبتمبر، لتصبح سابقة على موعد الانتخابات التشريعية المبرمجة في 6 أكتوبر/تشرين الأول المقبل، وهو موعد ثبتته الهيئة نهائياً ورفضت أي حديث عن تغييره. وستجرى الانتخابات الرئاسية في دور أول في 15 سبتمبر، وربما تذهب إلى جولة ثانية إذا لم يحصل أي مرشح على أغلبية واضحة. وستفتح أبواب الترشح للرئاسيات نهاية هذا الشهر، أو بداية أغسطس/آب المقبل، وهو ما يعني أن الأحزاب والشخصيات التي كانت تقوم بحسابات وتستقرئ الأوضاع المحلية والدولية وتسبّق برامج الانتخابات التشريعية، ستكون في سباق مع الزمن من أجل تحديد أسماء مرشحيها واستراتيجيتها الانتخابية.
وكانت حركة "النهضة" مثلاً تعوّل على مقايضة نتائجها في الانتخابات التشريعية بالرئاسية وبالتفاهمات والتحالفات التي تليها. وأوضح رئيس مجلس شورى الحركة، عبد الكريم الهاروني، هذه الاستراتيجية، في تصريح مهم، لم يُثر انتباهاً كبيراً خلال أعمال الدورة السنوية الثالثة لقيادات الحزب، منذ أسابيع، إذ أكد أولاً أنه "لا بد من التركيز على الانتخابات التشريعية ونحن لنا ثقة بأنّنا سنكون القوة الأولى في التشريعية. أما الرئاسية فنحن لسنا في عجلة من أمرنا، وسنواصل النظر في هذا الملف، ولا بد من البحث عن شراكة في الحكم مع القوى الوسطية، بما في ذلك العائلة الدستورية، وفي هذا الإطار سننظر وسنتفاعل مع نتائج الانتخابات التشريعية". وأشار الهاروني إلى "أنّ نتائج الانتخابات التشريعية ستكون أهم ورقة بيد الحركة للتفاوض بخصوص رئاسة الجمهورية والبرلمان والحكومة، وذلك بالتوازي مع تطورات الوضع الإقليمي"، وفق تصريحه.
يؤكد هذا التصريح بوضوح أن "النهضة" كانت ستقيّم نتائجها في التشريعية أولاً، ثم تبحث عن حلفائها الجدد لتوزيع السلطة التنفيذية برأسيها (الرئاسة والحكومة) والتشريعية من خلال رئاسة البرلمان. وأوضح الهاروني أنه "للمرة الأولى بعد 50 سنة ستقدّم النهضة مرشحاً للرئاسية، في 2014 كان التعامل معنا كصندوق للدعم. النهضة ليست صندوقاً للدعم، وإن كان لا بد من دعم فهو لمستحقيه". وتمنّعت الحركة وغيرها طويلاً بشأن الرئاسية، لكن رحيل السبسي سيدفع الجميع إلى تحديد مرشحيهم وبسرعة، ما سيقلب كل الخطط الموضوعة إلى حد الآن، وستبحث "النهضة" سريعاً إذا ما كانت سترشح أحداً من داخلها، ولا يعرف إذا ما كانت ستغير خططها بترشيح زعيمها راشد الغنوشي للبرلمان. كما ستظهر بقية الشخصيات الطامحة في الترشح بسرعة أكبر، ومن بينهم رئيس الحكومة يوسف الشاهد وبقية زعماء الأحزاب والمستقلون. لكن الثابت أن رحيل السبسي سيبعثر أوراق الجميع وسينتج بالضرورة مشهداً تونسياً مغايراً لما قبل وفاته.