لا تقف المسألة عند توتر علاقة "حركة النهضة" بـ"حركة الشعب"، وإنما الأزمة القائمة بين رئيس الجمهورية قيس سعيد من جهة، وبين "حركة النهضة" وحزب "ائتلاف الكرامة" من جهة أخرى، الأمر الذي يكاد يدفع بالبلاد نحو سيناريو يصعب التكهن بتداعياته على أكثر من صعيد. وقد يزداد المشهد العام قتامة إذا ما اندفعت النقابات نحو مواجهة ميدانية مع الحكومة بسبب الإجراءات التي ينوي الفخفاخ الإعلان عنها خلال الأيام المقبلة، والتي وصفت بـ"المؤلمة".
وتعتقد "حركة الشعب" أنّ "النهضة" ليست جادة في دعم الحكومة رغم كونها تتمتّع بأكبر عدد من الوزارات فيها، وتتهمها بالخداع ومواصلة سياسة اللعب على حبلين، فهي من جهة "النهضة" مستفيدة من الائتلاف الحاكم، ومن جهة أخرى تنسّق مع المعارضة في البرلمان التي تتمثل في حزب "قلب تونس" وكذلك حزب "ائتلاف الكرامة".
في المقابل، لا يثق النهضويون بالقوميين الذين يناصبونهم العداء من منطلقات أيديولوجية، سواء داخل الحكومة أو تحت سقف البرلمان. وقد سمّم هذا التراشق بين الطرفين الأجواء الحكومية، وأخذ ينذر بانهيار قريب للائتلاف الحاكم، وهو ما جعل الفخفاخ يطلق حواراً بين الأمناء العامين للأحزاب المشاركة في السلطة، ويطرح عليهم "وثيقة التضامن الحكومي" إلى جانب آلية لإجراء مشاورات مستمرة بينه وبين رؤساء الكتل البرلمانية المشاركة في الائتلاف.
وتتضمّن الوثيقة مجموعة مبادئ وقواعد عامة، الهدف منها التذكير بما هو مشترك، والتنصيص على أخلاقيات الحوار والتعايش. ويفترض التوقيع عليها من قبل الجميع، على الرغم من أن زهير المغزاوي الأمين العام لـ"حركة الشعب" اعتبر أنّ "أزمة الثقة أعمق من هذه الوثيقة".
من جهتها، لم تتردد "حركة النهضة" في الكشف عن بعض أوراقها. فهي تريد توسيع دائرة الحكومة من خلال إشراك حزب "قلب تونس"، وربما "ائتلاف الكرامة" أيضاً. وبذلك يتحقق مطلبها الأساسي الذي طرحته من قبل، ويتمثل في تشكيل "حكومة وحدة وطنية"، والتي لا يزال الفخفاخ يرفضها، ويعتبر أن الحكومة الحالية تجمع مختلف التيارات، ويذكر بكونها تضم تسعة أحزاب. ما تريده "النهضة" هو التخلص من "حركة الشعب"، أو على الأقل أن تجعل منها "أقلية غير فاعلة" داخل الحكومة، فالطريق لا يزال طويلاً قد يستمر لخمس سنوات مقبلة، هي عمر البرلمان الحالي.
أما رئيس الجمهورية قيس سعيد فغاضب. ففي خطابه الأخير الذي ألقاه بالأكاديمية العسكرية في فندق "الجديد" هاجم منتقديه بشدة ووصفهم بـ"عدم الفهم"، مستنداً إلى بيت شعر يقول عجزه "ومن البلية خطاب من لا يفهم". كذلك اتهمهم بـ"العيش على الأوهام وأضغاث الأحلام، والكذب، والرياء والافتراء". وقد ورد ذلك في سياق ردّه على الحملة التي قام بها عديد من النواب بالبرلمان، خاصة من ينتمون إلى كتلتي "النهضة" و"ائتلاف الكرامة"، بلغت درجة التهديد باللجوء إلى "سحب الثقة من الرئيس". وذلك في تعقيب منهم على ما اعتبروه تشكيكاً من قبل سعيد في البرلمان وفي مشروعيتهم الدستورية، إذ قام بالتمييز بين الشرعية والمشروعية، كما ردوا على بعض أنصاره الذين دعوا إلى الزحف إلى البرلمان وتعطيل أعماله.
من جهة أخرى، حذّر آخرون من تعدد المناسبات التي جمعت رئيس الدولة بالجيش، وعبروا عن تخوفهم من أن يكون وراء ذلك هدف سياسي. فما كان من قيس سعيد إلا أن رد على أصحاب هذا القول بقوله "هم يعلمون أننا وإياكم (في إشارة إلى العسكريين) أكثر حرصاً على احترام الشرعية من الحالمين الواهمين".
غير أن هذا الانزعاج لم يقف عند حدود السياسيين المخاصمين لقيس سعيد، بل تعدى الأمر إلى بعض المسؤولين السابقين في الجيش التونسي، حيث علق المدير السابق للأمن العسكري الجنرال محمد المؤدب قائلاً "كان الأحرى بالسيد قيس سعيد النأي بإطارات المؤسسة العسكرية وجنودها عن كل ما له علاقة بالسياسة التي لا دخل لهم فيها، ومخاطبتهم فيما يهمهم".
ولا شك في أن رئيس الجمهورية مدرك لحساسية التطرق إلى مسألة علاقة الجيش بالسياسة، كما أن الذين يعرفونه عن قرب واثقون من كونه لا يحمل توجهات انقلابية، وأنه حريص على حماية الدستور والنظام الجمهوري، غير أن هجومه على خصومه أمام أبناء المؤسسة العسكرية أثار الالتباس، وفتح الباب أمام التأويل والتساؤل حول الأسباب التي دفعته إلى ذلك.
وانخرط الرئيس السابق المنصف المرزوقي في هذا الجدل السياسي الذي يكاد يغطي على أخبار وباء فيروس كورونا. وكتب مقالاً تحت عنوان "الاستبداديون والشعبويون على قلب رجل واحد"، سخر فيه من جديد من الذين ينتقدون الديمقراطية التمثيلية ويدعون إلى ديمقراطية مباشرة مثلما يعتقد الرئيس قيس سعيد. وجاء هذا المقال حاداً ضد كل من يرى في نفسه "مخلصاً يعد الناس كذباً وتحيلاً بأنه يملك الحل السحري لمشاكلهم"، مضيفاً أنّ "ما يتجاهلونه أن الديمقراطية التمثيلية التي ينتقدونها ليست سوى ديمقراطية مجالسية"، واعتبر أن هذه الفكرة "ساذجة وبدائية حتى لا نصل إلى اتهامها بالهذيان والجنون".
تكاد تونس تنزلق من جديد إلى أزمة سياسية، رغم محاولات رئيس الحكومة إرجاع الجميع إلى المربع الاقتصادي والاجتماعي الذي يضيق يوماً بعد يوم. وقد أصبح الفخفاخ يخشى من مواجهة فعلية مع النقابات التي وجهت له أكثر من إنذار تحسباً للقرارات التي سيعلن عنها قريباً. كذلك يخشى الفخفاخ انحياز رئيس الدولة إلى جانب قيادة الاتحاد العام التونسي، خاصة بعد اللقاء الذي جمع الطرفين أخيراً، وتم الإعلان فيه عن رفضهما المساس بحقوق الشغالين. وهو أمر إذا ما ترجم إلى مواقف عملية فمن شأنه أن يضع الحكومة في مأزق غير مسبوق.