لا يزال تشكيل المحكمة الدستورية في تونس بمثابة الثغرة الكبيرة التي تشوب المسار الديمقراطي، وتمسّ نجاح التجربة السياسية. فعلى الرغم من المساعي والتوافقات منذ البرلمان السابق في هذا الشأن، إلا أنّ كل المحاولات والدورات الانتخابية السابقة لاختيار الأعضاء الثلاثة الموكل للبرلمان انتخابهم، باءت بالفشل.
وأعلن البرلمان التونسي في بيان رسمي في 11 يونيو/حزيران الحالي أنّ "مكتب مجلس النواب مدد آجال تقديم الترشيحات للمحكمة الدستورية إلى يوم 19 يونيو/حزيران 2020، على أن تنطلق الجلسات العامة الانتخابية يوم 8 يوليو/تموز المقبل، وكلّف النائب الأول لرئيس المجلس ومساعد الرئيس المكلف بالعلاقات مع السلطة القضائية والهيئات الدستورية للتواصل مع رؤساء الكتل البرلمانية للوصول إلى توافق".
وتوشك الدورة البرلمانية الأولى من الولاية النيابية الجديدة على الانقضاء نهاية شهر يوليو المقبل، وقدّمت الكتل مرشحيها لعضوية المحكمة الدستورية، وذلك فيما التزم رئيس البرلمان راشد الغنوشي منذ انطلاق ولايته، بأن يكون تشكيل المحكمة في صدارة اهتمامه. وعقد الغنوشي جلسات عمل عدة مع رؤساء الكتل البرلمانية الثمانية، وجلسات ثنائية مع عدد منهم، ولكن لم تفض إلى أي تقدم في اتجاه حلحلة مسار انتخاب أعضاء مجلس المحكمة الدستورية المعطلة.
وبقي أمام البرلمان انتخاب 3 أعضاء بعد أن تمكن بصعوبة من انتخاب القاضية روضة الورسيغني خلال العهدة البرلمانية السابقة، وذلك حتى يتمكن المجلس الأعلى للقضاء بعد ذلك من اختيار 4 أعضاء ويعيّن الرئيس التونسي بدوره 4 أعضاء آخرين.
وعن ذلك، قالت أستاذة القانون الدستوري وخبيرة القوانين البرلمانية، منى كريم الدريدي، في حديث لـ"العربي الجديد"، إنّ "أهم الأسباب التي تقف وراء فشل البرلمان في انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية، هو غياب الإرادة للنأي بها عن التجاذبات السياسية، من خلال محاولة كل حزب فرض مرشحه على حساب الآخرين".
ولفتت كريم إلى أنّ القانون يفرض أغلبية معززة لانتخاب أعضاء المحكمة الدستورية أي بما لا يقل عن الثلثين، وبالتالي بموافقة 145 نائباً، وهي أغلبية عالية تعزز مبدأ حياد واستقلالية الأعضاء المنتخبين، فلا يقدر أي حزب أو كتلة بمفردها على تمرير مرشحه، باعتبار أنّ القانون يعطي للكتل أحقية ترشيح أربعة أعضاء. وشددت على "ضرورة التوافق ببن الكتل ووضع الخلافات جانباً من أجل إرساء هذه المؤسسة القضائية الدستورية المستقلة الضامنة لعلوية الدستور والحامية للنظام الجمهوري الديمقراطي وللحقوق والحريات".
وحذرت كريم من مغبة تواصل غياب المحكمة الدستورية، "في ظلّ التداخل والتدافع الذي تعيش على وقعه السلطات، والأزمات الدستورية التي تعيشها البلاد، والتي كان يمكن تجاوزها من دون إضاعة وقت في ظلّ المحكمة الدستورية". ولفتت إلى أنّ "تونس تجاوزت بحكمة الأزمة الدستورية التي خلفها فراغ منصب الرئيس بوفاة الرئيس الباجي قائد السبسي العام الماضي، وقد تمّ تجاوز فراغ المحكمة الدستورية التي من دورها معاينة الوفاة ومتابعة انتقال السلطة إلى رئيس البرلمان".
وتناقش لجنة التشريع العام البرلمانية، بالتوازي مع محاولات دفع الجلسة الانتخابية، مشروع القانون الأساسي المتعلق بتنقيح قانون المحكمة الدستورية، بهدف خفض الأغلبية المطلوبة للانتخاب إلى 109 نواب فقط. وقد دعا وزير العدل الأسبق محمد صالح بن عيسى، في مداخلة له أمام اللجنة التي نظمت جلسة استماع لأساتذة في القانون الدستوري أخيراً، إلى ضرورة إعادة صياغة بعض الفصول من نصّ مشروع تنقيح القانون "لما تتضمنه من غموض وعدم دقة". وقال بن عيسى إنّ "الهدف من مشروع تنقيح القانون هو إيجاد مخرج للوصول إلى انتخاب بقية أعضاء المحكمة الدستورية وتركيزها، ولكن بالأغلبية المعززة، أي أن أغلبية ثلثي أعضاء مجلس نواب الشعب، يبقى شرطاً أساسياً لانتخاب أعضاء هذه المحكمة، وذلك لضمان اختيار أعضاء من الأكثر كفاءة ونزاهة واستقلالية وحياداً، وبدرجة عالية من التوافق".
ويتضمّن التعديل المقترح ضرورة الفصل بين جهة الترشيح (كتل مجلس النواب) والجهة المنتخِبة (النواب) على غرار ما تم بالنسبة لانتخاب الهيئات الدستورية الأخرى، كحلّ لفض إشكالية التوافق بين الكتل النيابية.
وأكّد أستاذ القانون الدستوري خالد الدبابي، بدوره، في مداخلته أمام لجنة التشريع العام البرلمانية، ضرورة الإبقاء على الأغلبية المعززة لانتخاب بقية أعضاء المحكمة الدستورية، وأوضح أنه "باعتبار أنّ الدستور عقد اجتماعي يؤسس وينظم العلاقة بين السلطات كما ينظم العلاقة بين الفرد وهذه السلطات وقد تمت المصادقة عليه بأغلبية الثلثين، فإنه من الأولى أن يتم انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية التي تعدّ طرفاً ضامناً لحسن تطبيق أحكام هذا الدستور بأغلبية الثلثين أيضاً".
من جهته، أكّد الرئيس السابق لهيئة الانتخابات، وأستاذ القانون شفيق صرصار، ضرورة إيجاد مخرج لتشكيل المحكمة الدستورية في أقرب الآجال، مشيراً في مداخلته أمام اللجنة، إلى أنّ مشروع القانون المعروض "يمثل أحد الحلول الذي من شأنه أن يساعد على تشكيلها"، وأنه "لا ضرر في أن يتم انتخاب بقية الأعضاء بالأغلبية المطلقة، وهو حل لا يثير أي إشكال قانوني، كما أنه معمول به بعديد التجارب المقارنة، خصوصاً أنّ المشرّع قد وضع شروطاً وضوابط تحمي وتضمن استقلالية وحياد هؤلاء الأعضاء تتمثل أساساً في الشروط الواجب توفرها عند ترشيحهم وفي مدة العضوية بتسع سنوات وعدم تجديدها".
وأكّد نواب من أعضاء لجنة التشريع العام، بدورهم، أنّ المشكلة ليست قانونية بقدر ما هي سياسية وتتعلق بالإرادة والرغبة في تشكيل هذه المحكمة. وشدد أعضاء اللجنة على ضرورة انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية من دون المساس بالإجراءات التي نص عليها القانون، وذلك باعتماد أغلبية الثلثين لما يمثله هذا الإجراء من ضمان للاستقلالية والكفاءة والحياد.
ويرى مراقبون أنّ عدم تشكيل المحكمة الدستورية على الرغم من مرور أكثر من 6 سنوات على المصادقة على دستور الثورة، بمثابة نقطة سوداء في صفحة البرلمان التونسي المطالب بالإسراع في إتمام هذه الخطوة المهمة بالنسبة للتجربة الديمقراطية التونسية.
وفي السياق، اعتبر المحلل السياسي عبد المنعم المؤدب، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنّ التجربة الديمقراطية التونسية "بقيت عرجاء بسبب عدم اكتمال تشكيل المحكمة الدستورية، التي تعدّ بمثابة حارس دستور الثورة، وضمانة احترام الجميع لحسن تطبيقه". ولفت المؤدب إلى أنّ المحكمة الدستورية "ستنهي نزاعات وخلافات عدة يعيش على وقعها المشهد السياسي اليوم، وذلك من خلال فصل التجاذب بين السلطات والإفتاء في تنازع الاختصاص القائم مثلاً بين رئيسي الجمهورية والبرلمان في ما يتعلق بالدبلوماسية البرلمانية، كما ستحسم الخلاف حول تعديل النظام السياسي وتعديل الدستور". وأضاف أنّ هذه المحكمة الدستورية "هي الأولى من نوعها، فلم تعرف تونس قبل الثورة حديثاً عن إرساء هذه الهيئة القضائية المستقلة التي ستصبح ملاذاً لكل السلطات".