02 نوفمبر 2024
تونس.. المواجهة بين الحكومة واتحاد الشغل
يضجّ الشارع التونسي، هذه الأيام، بجدل واسع بشأن مشروع ميزانية سنة 2017 الذي أحالته حكومة الوحدة الوطنية، برئاسة يوسف الشاهد، على مجلس نواب الشعب في 15 أكتوبر/ تشرين الأول 2016، لمناقشته والتصديق عليه. ويتضمّن المقترح الحكومي عدّة نقاط خلافية، أثارت حفيظة عموم المواطنين ومكوّنات المجتمع المدني، ووضعت الحكومة والاتحاد العام التونسي للشغل وجهًا لوجه. والناظر في مشروع الموازنة المقترحة من الحكومة، يتبيّن أنه اشتمل تدابير تقشفيةً عديدة، أهمّها تأجيل الزيادة في الأجور المتفق عليها سابقًا مع المركزية النقابية إلى سنة 2019، وإيقاف الانتدابات في أغلب القطاعات المهنية سنة 2017، وعدم تعويض الشغور الحاصل في مجال الوظيفة العموميّة في السنة المقبلة. كما جاء في قانون المالية التوجه نحو مزيد من التحكّم في برامج الترقيات المهنية، والتقليص من منحة الساعات الإضافيّة، وترشيد منحة الإنتاج ونفقات التسيير، مع إعادة توظيف الموارد البشرية المتوفّرة في الهياكل الوزارية والجهويّة، ورفع أسعار المواد الاستهلاكية (الكهرباء والغاز، المحروقات، التبغ، الكحول، السيارات ...)، وإعطاء الأولوية للمشاريع التنموية. ويروم الطرف الحكومي من اعتماد مشروع المالية لسنة 2017 تحقيق أهدافٍ، أهمّها استرجاع نسق النمو عبر دفع الاستثمار، وتشجيع المبادرة الخاصّة، وتوزيع العبء الجبائي بين جميع المطالبين بالأداء، وتحسين استخلاص الجباية وتدعيم موارد الميزانية.
وقد وجدت هذه الخيارات القائمة على تكثيف الضغط الجبائي، وتجميد كتلة الأجور، وتقليص نفقات التسيير والتشغيل معارضةً شديدةً من الاتحاد العام التونسي للشغل الذي يعدّ أكبر وأعرق منظمة نقابية في البلاد، وعبّر في بيان في 17 أكتوبر، عن رفضه المطلق كلّ الإجراءات الحكومية (...) التي "جاءت، في مجملها، مثقلة كاهل الأجراء وعموم الشعب، معمّقة الحيف المسلّط عليهم، ومنها تأجيل الزيادات الواردة في اتفاقاتٍ سابقةٍ، والصّادرة في الرّائد الرسمي
(الجريدة الرّسمية التونسية)"، معتبرا أن الحكومة خرجت عن وثيقة قرطاج، والتفّت على ما تضمّنته التزامات، مشيراً إلى أنّها "تتحمّل، وكلّ الأطراف المشكّلة لها مسؤولية زعزعة الاستقرار الاجتماعي"، داعياً كل الشغالين في جميع القطاعات إلى "التجنّد للدّفاع عن حقوقهم، ومنع تحميلهم فشل السّياسات الماليّة، وفرض احترام التعهّدات"، مستنفراً "الهياكل النقابية للتعبئة والاستعداد للنضال من أجل الحفاظ على حقوق العمّال، بكلّ الطرق المشروعة"، وذهب الأمين العام للاتحاد، حسين العبّاسي، إلى حدّ القول "إنّ مشروع الميزانية فيه حيف وضيم وتفقير للطبقة الشغيلة".
ويمكن عمليّا تفسير التوجّهات التقشفيّة للحكومة التونسية بطبيعة الظرف الاقتصادي الصّعب الذي تمرّ به البلاد، والذي تميّز بتراجع نسق المبادلات التجارية، وانخفاض نسبة النموّ إلى حدود 1.2% مع مُوفّى السداسية الأولى من سنة 2016، وتزامن ذلك مع انخفاض سعر صرف الدينار التونسي في مقابل العملات الأجنبية الرئيسية، وارتفاع أسعار النفط واتساع كتلة الأجور التي بلغت 13% من الناتج الداخلي الخام، وهو ما أرهق خزينة الدولة، وأحوج إلى البحث عن موارد إضافية لسدّ العجز المالي الحاصل. لكن الإشكال ماثلٌ في أنّ الطبقة الوسطى والعمّال يُعتبرون الفئة الأضعف التي استهدفها مشروع الميزانية الجديد، وكلّفها عبء تغطية النقص الحاصل في موارد الدولة، فقد جرى رفع أسعار الموارد الاستهلاكية وتكثيف الضرائب، وتم تجميد الأجور على نحوٍ سيضرّ، بالضرورة، بالمقدرة الشرائية للمواطن، ويجعله غير قادرٍ على تأمين حاجيّاته الأساسية، وضمان الحدّ الأدنى من العيش الكريم. وفي هذا السياق، يُفهم اعتراض اتحاد الشغل على مشروع الميزانية الجديد، فالمركزية النقابية على درايةٍ أكيدةٍ بالوضع الهشّ للطبقة الوسطى، والفئات محدودة الدّخل التي تشكّل غالبية الشعب التونسي، وهي تدرك سلفًا أنّها قادرةٌ على تحريك الشارع لمواجهة الإملاءات الحكومية، والدفاع عن حقوق الطبقة الشغيلة. وسبق للاتحاد أن خاض عدّة حركاتٍ احتجاجيّةٍ ضدّ الحكومات الانتقاليّة المتعاقبة بعد الثورة، وتمكّن من التأثير بقوّةٍ في مسار التوجّهات السياسيّة والاقتصاديّة للبلاد. ومن المستبعد أن يقبل، هذه المرّة، التنازل عن مطلب الزيادة في الأجور، وعن مطلب تعزيز الطاقة التشغيليّة في قطاعاتٍ حيويّةٍ، مثل التعليم والصحّة، وذلك لأنّ التنازل عن هذا المستوى من المطلبيّة المواطنيّة سيجعله في حرجٍ أمام قواعده من ناحية، وسيظهره في موقع المخلّ بالتزاماته تجاه العمّال والمهنيين من ناحية أخرى.
يضاف إلى ذلك أنّ الاتحاد مقبل خلال في يناير/ كانون الثاني 2017 على عقد مؤتمره الثالث والعشرين، والاحتفال بمرور سبعين عاماً على تأسيسه، وهو حريصٌ، خلال هذه المرحلة، على ضمان أكبر قدر من التأييد الشعبي لجهوده النقابية، وتفادي أي خطوةٍ يمكن أن تُقلّل من مصداقيّته لدى منظوريه.
ويسري الحرج نفسه على حكومة يوسف الشاهد التي تجد نفسها مطالبةً بإنقاذ ميزانية الدولة المنهكة، ومعنيّةً بالوفاء لالتزاماتها مع صندوق النقد الدولي، ولتعهّداتها مع الأطراف الدائنة، وهو ما يدفعها إلى مزيدٍ من التحكّم في الإنفاق، والتوجه نحو تبني سياسات التقشّف. ويُخشى من أن تؤدّي حالة الشدّ والجذب بين اتحاد الشغل والحكومة إلى انفراط عقد الوحدة الوطنية، وإلى عودة البلاد إلى دوّامة الاعتصامات العشوائيّة والإضرابات العامّة التي تهزّ السلم الاجتماعي، وتعطّل فرص الإقلاع الاقتصادي المنشود. لذلك، تبدو مسؤوليّة الطرفين، في هذه الفترة الدقيقة من تاريخ تونس، كبيرة، وأحرى بالجانبين، في هذا الظرف العصيب، التحلّي بالمرونة والاحتكام إلى الحوار، والتوجه نحو البحث عن حلولٍ توافقيّةٍ، ومقاربات تعديليّةٍ، تضمن حقوق العمّال، وتعزّز، في الوقت نفسه، المساعي الحكوميّة لتجاوز الأزمة الاقتصاديّة المشهودة، وإلاّ فإن البلاد مقدمةٌ على شتاءٍ احتجاجيٍّ ساخنٍ لا محالة.
وقد وجدت هذه الخيارات القائمة على تكثيف الضغط الجبائي، وتجميد كتلة الأجور، وتقليص نفقات التسيير والتشغيل معارضةً شديدةً من الاتحاد العام التونسي للشغل الذي يعدّ أكبر وأعرق منظمة نقابية في البلاد، وعبّر في بيان في 17 أكتوبر، عن رفضه المطلق كلّ الإجراءات الحكومية (...) التي "جاءت، في مجملها، مثقلة كاهل الأجراء وعموم الشعب، معمّقة الحيف المسلّط عليهم، ومنها تأجيل الزيادات الواردة في اتفاقاتٍ سابقةٍ، والصّادرة في الرّائد الرسمي
ويمكن عمليّا تفسير التوجّهات التقشفيّة للحكومة التونسية بطبيعة الظرف الاقتصادي الصّعب الذي تمرّ به البلاد، والذي تميّز بتراجع نسق المبادلات التجارية، وانخفاض نسبة النموّ إلى حدود 1.2% مع مُوفّى السداسية الأولى من سنة 2016، وتزامن ذلك مع انخفاض سعر صرف الدينار التونسي في مقابل العملات الأجنبية الرئيسية، وارتفاع أسعار النفط واتساع كتلة الأجور التي بلغت 13% من الناتج الداخلي الخام، وهو ما أرهق خزينة الدولة، وأحوج إلى البحث عن موارد إضافية لسدّ العجز المالي الحاصل. لكن الإشكال ماثلٌ في أنّ الطبقة الوسطى والعمّال يُعتبرون الفئة الأضعف التي استهدفها مشروع الميزانية الجديد، وكلّفها عبء تغطية النقص الحاصل في موارد الدولة، فقد جرى رفع أسعار الموارد الاستهلاكية وتكثيف الضرائب، وتم تجميد الأجور على نحوٍ سيضرّ، بالضرورة، بالمقدرة الشرائية للمواطن، ويجعله غير قادرٍ على تأمين حاجيّاته الأساسية، وضمان الحدّ الأدنى من العيش الكريم. وفي هذا السياق، يُفهم اعتراض اتحاد الشغل على مشروع الميزانية الجديد، فالمركزية النقابية على درايةٍ أكيدةٍ بالوضع الهشّ للطبقة الوسطى، والفئات محدودة الدّخل التي تشكّل غالبية الشعب التونسي، وهي تدرك سلفًا أنّها قادرةٌ على تحريك الشارع لمواجهة الإملاءات الحكومية، والدفاع عن حقوق الطبقة الشغيلة. وسبق للاتحاد أن خاض عدّة حركاتٍ احتجاجيّةٍ ضدّ الحكومات الانتقاليّة المتعاقبة بعد الثورة، وتمكّن من التأثير بقوّةٍ في مسار التوجّهات السياسيّة والاقتصاديّة للبلاد. ومن المستبعد أن يقبل، هذه المرّة، التنازل عن مطلب الزيادة في الأجور، وعن مطلب تعزيز الطاقة التشغيليّة في قطاعاتٍ حيويّةٍ، مثل التعليم والصحّة، وذلك لأنّ التنازل عن هذا المستوى من المطلبيّة المواطنيّة سيجعله في حرجٍ أمام قواعده من ناحية، وسيظهره في موقع المخلّ بالتزاماته تجاه العمّال والمهنيين من ناحية أخرى.
يضاف إلى ذلك أنّ الاتحاد مقبل خلال في يناير/ كانون الثاني 2017 على عقد مؤتمره الثالث والعشرين، والاحتفال بمرور سبعين عاماً على تأسيسه، وهو حريصٌ، خلال هذه المرحلة، على ضمان أكبر قدر من التأييد الشعبي لجهوده النقابية، وتفادي أي خطوةٍ يمكن أن تُقلّل من مصداقيّته لدى منظوريه.
ويسري الحرج نفسه على حكومة يوسف الشاهد التي تجد نفسها مطالبةً بإنقاذ ميزانية الدولة المنهكة، ومعنيّةً بالوفاء لالتزاماتها مع صندوق النقد الدولي، ولتعهّداتها مع الأطراف الدائنة، وهو ما يدفعها إلى مزيدٍ من التحكّم في الإنفاق، والتوجه نحو تبني سياسات التقشّف. ويُخشى من أن تؤدّي حالة الشدّ والجذب بين اتحاد الشغل والحكومة إلى انفراط عقد الوحدة الوطنية، وإلى عودة البلاد إلى دوّامة الاعتصامات العشوائيّة والإضرابات العامّة التي تهزّ السلم الاجتماعي، وتعطّل فرص الإقلاع الاقتصادي المنشود. لذلك، تبدو مسؤوليّة الطرفين، في هذه الفترة الدقيقة من تاريخ تونس، كبيرة، وأحرى بالجانبين، في هذا الظرف العصيب، التحلّي بالمرونة والاحتكام إلى الحوار، والتوجه نحو البحث عن حلولٍ توافقيّةٍ، ومقاربات تعديليّةٍ، تضمن حقوق العمّال، وتعزّز، في الوقت نفسه، المساعي الحكوميّة لتجاوز الأزمة الاقتصاديّة المشهودة، وإلاّ فإن البلاد مقدمةٌ على شتاءٍ احتجاجيٍّ ساخنٍ لا محالة.