الأزمات التي شهدتها تونس كانت متتالية بعد الثورة، ورغم سقوط حكومتين إثر عمليتين إرهابيتين أدّتا الى اغتيالين سياسيين كبيرين، فإن الحكومة التونسية الحالية التي يقودها الحبيب الصيد تواجه أزمات عاصفة هي الأعنف والأصعب. وبغض النظر عن مآلها ونتائجها السياسية، فإن الرجل يبدو وحيداً في مواجهة فترة الارتجاجات الكبيرة التي لا يُعرف كيف يمكن تجنب الأسوأ فيها.
لكن الصيد أظهر حتى الآن رباطة جأش وصلابة في التعامل مع الأزمات، التي يُخشى أن يكون لها أبعاد دولية وسيناريوهات أكبر من تونس، تستهدف ثمرتها الديمقراطية، الوحيدة في بلدان الثورات العربية.
اقرأ أيضاً: تونس تتهيّأ لكافة السيناريوهات: تنسيق دولي.. ولا طوارئ
ولم يهنأ الصيد بلحظة انتصار أو هدوء واحدة منذ شكّل حكومته قبل بضعة أشهر. بل رافق تشكيلها تشكيك من داخل الائتلاف الحاكم ومن خارجه، ثم تتالت الأزمات الاجتماعية وتكثفت الإضرابات بشكل لافت، ودخل الجنوب بشرقه وغربه في موجات إضرابات شلت الحركة وعطلت أهم مورد للدولة، وهو استخراج الفوسفات من الغرب وتكريره في الشرق. ووجدت حكومة الصيد نفسها في مواجهات أمنية تطلبت فرض حظر التجول في بعض المدن.
ولم يقتصر الأمر على الجنوب، بل انتقلت الإضرابات الى قطاعات حساسة مثل النقل والتعليم استمرت لأسابيع، ودخلت الحكومة في صراع لي أذرع مع النقابات، أدى الى اتخاذ قرارات لأول مرّة في تونس مثل الاستغناء عن امتحانات آخر السنة، وإنجاح جميع تلاميذ الابتدائي، ورُحّلت الأزمة الى مطلع الموسم الدراسي المقبل مع إحالتها الى القضاء في الوقت نفسه، وهي سابقة لم تعرفها البلد.
ولم تقف الأزمات التي واجهتها الحكومة عند هذا الحد، وانما شكّل التحدي الاقتصادي أكبر امتحاناتها بدون تحقيق نجاح يذكر، لأسباب موضوعية لا تتعلق بطريقة الآداء فقط، وإنما جاءت نتيجة لتراكمات عديدة جعلت الدولة شبه مفلسة وعاجزة عن سداد التزاماتها الداخلية بسبب ما تعتبره الحكومة مطلبية مجحفة، وما تراه النقابات حقاً طبيعياً تنصلت منه الحكومات المؤقتة ورحّلته الى حكومة مستقرة.
وفي ظل تردّي الواقع الإنتاجي وتراجع أهم الموارد التقليدية لخزينة الدولة، جاءت الأحداث الإرهابية قبيل وأثناء أيام رمضان الأولى لتطلق رصاصة الرحمة على أمل الحكومة في إنعاش خزينتها عبر الموسم السياحي، ووجدت السلطة نفسها أمام نفقات أمنية جديدة ليس أقلها تخصيص ألف عنصر أمني خاص بمراقبة الشواطئ والمؤسسات السياحية.
غير أن الإحساس الطاغي في تونس في هذه الفترة، بعد اعتداءات سوسة، يشكّل حالة جديدة لم تعرفها البلاد من قبل، وتدفع بالمسؤولين إلى مغالبة الوقت لتفادي سقوط تام، وطرد إحساس نهائي بخسارة المعركة، ودخلت شخصيات الحكم الأولى في سباق محموم مع الزمن، لإعادة زرع الأمل وطرد اليأس من المؤسسات والنفوس على حدّ سواء.
ويحاول الصيد برغم هذه التحديات الكبيرة التي تتجاوز حكومته أو أي حكومة عادية، أن يظهر كالمنقذ الذي يهرول في كل اتجاه لإطفاء النيران الملتهبة هنا وهناك، يجتمع بمختلف التيارات السياسية في الداخل، ويلتقي مسؤولين من الخارج، ويعقد المجالس الوزارية المتتالية، ويرمم الإخفاقات الأمنية، ويجري تغييرات في المناصب، ويلهث وراء هدنة اجتماعية؛ من سوسة إلى تونس إلى جربة فالحمامات. وفي ظل هذا النشاط، يعقد مؤتمرات صحافية موجهة للخارج للحد من تآكل صورة تونس الهادئة، وفي مسعى لحماية صورة الاستثناء.
وبغض النظر عن نجاح هذه المساعي من عدمها، لا بد من الاعتراف أن الرجل أظهر قوة وصلابة نادرتين، برغم إخفاقه الاتصالي المعروف الناتج عن تكوينه الإداري الصرف وعدم تدربه على الاتصال بالناس وصياغة، ما تعود عليه التونسيون لعقود منذ الحبيب بورقيبة، لخطاب بإمكانه أن يسرق الإعجاب حتى دون أن يؤثّر أو يغيّر.
ولم يتغير حال هذه الحكومة منذ تشكلت، فيما يتعلق بداعميها. ويبدو الصيد كما بدأ محاطاً بشيخين لم يغيرا من موقفهما الداعم له، الرئيس الباجي قائد السبسي وزعيم حركة "النهضة" راشد الغنوشي. ورغم أن الأصوات المعارضة قد خفتت قليلاً هذه الأيام، غير أنه لا يجد دعماً في الميدان إلا منهما. وفيما قرر السبسي التوجه إلى الداخل وترميم المعنويات، والإعلان عن تغيير في المقاربة السياسية لما يصفه بـ"الانفلات"، دخل الغنوشي في سلسلة اتصالات مع الخارج، بدءاً من السفير الأميركي وصولاً الى الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة في الجزائر. وكانت لقاءاته بالمسؤولين الجزائريين سياسية حول ما يدور في المنطقة بشكل كامل، ولكنها راحت أيضاً باتجاه إنقاذ الموسم السياحي عبر لقائه وزير السياحة الجزائري، بعد الرغبة الجزائرية الشعبية العارمة في زيارة تونس بعد رمضان، والصعوبات التي شهدتها المفاوضات في هذا الملف منذ أيام.
وفي آخر تطورات الاعتداء الإرهابي في سوسة، اعتقلت السلطات الأمنية 12 مشتبهاً فيه. ونقلت وكالة "الأناضول" عن مسؤول أمني إن الجهات الأمنية تتعقب رجلين يعتقد أنهما تدربا في معسكر للجهاديين في ليبيا مع منفذ الهجوم.
وقال الوزير المكلف بالعلاقة مع مجلس النواب، لزهر العكرمي، في بيان أن "التحقيقات الموكولة لكل من وزارتي العدل والدّاخلية، لا تزال قائمة، وأن من نفذ عمليتي باردو وسوسة، كانوا من ضمن العناصر التي تدربت في ليبيا".
وكانت وزارة الداخلية قد أقالت ثلاثة مديري أمن، في محافظات سوسة والقيراون والمنستير، إثر الهجوم الإرهابي، وجرى "تعيين مديرين جُدد للمحافظات الثلاث".
ورغم تلك الإجراءات التي تتخذها الحكومة التونسية، يبقى السؤال الملح، هل تستطيع تونس أن تتجاوز هذه المِحنة الكبيرة، وهل يفلح الصيد في الصمود أمام هذه العواصف؟