جلبت أستاذة جامعيّة الأنظار في تونس منذ أيّام من خلال تغريدة على صفحتها على موقع التواصل الاجتماعي، فيسبوك؛ هاجمت فيها مفتي الجمهورية التونسية إثر بيان موقفه من قضية الميراث، التي أثارها أحد النّوّاب مُؤخّرًا عبر تقديمه مُبادرة تشريعية تُطالب بالمُساواة في الإرث بين الذّكر والأنثى.
ووصفت نائلة السليني، وهي إحدى أعلام التيار العلماني العتيق في تونس، عثمان البطيخ، مفتي الديار التونسية، بالجاهل وبأنها كافرة بإسلامه إن كان مهينًا للمرأة. وعبّرت عن ندمها لمساندته سابقًا عندما قاد تيار عزل عشرات الأئمّة بتعلّة التّصدّي للخطاب المُتطرّف في المساجد.
في الحقيقة، لا يُعدّ موقف السليني بالشّاذ في المشهد التونسي؛ فقد درج رموز التيار العلماني على إصدار مواقف شبيهة متى تعلّق الأمر أساسًا بالمسألة الدّينية، رغم تعاطيهم معها بسطحيّة تبعث على التندّر، مع بعض الاستثناءات.
ورغم أنّ الحديث حول التّطرّف دائمًا ما يُحيل إلى التّطرّف الديني؛ يعرف العالم ككل، وتونس ليست استثناءً، أجناسًا أخرى من التّطرّف وأبرزها العلماني، بل إن بعض الباحثين في علم الاجتماع قدّموا التطرّف العلماني كأحد مُولّدات التّطرّف الديني، خصوصًا في الدّول العربية التي حاربت التديّن في سياقات الحكم الدّكتاتوري.
في تونس مثلًا، ورغم أن بن علي كان في شخصه أعجز من أن ينتج فكراً سياسيًا باعتباره مُجرّد جنرال عسكري، كانت فترة حكمه في العُمق مُسيّرة بعقل علماني مُتطرّف صاغ مشروع تجفيف الينابيع، وكان مهندس هذه الخطّة ولا زال أحد أبرز الأعلام العلمانية في تونس، وأدّت إلى ما أدّت اليه من تجهيل ديني وتصحير ثقافي تسبّب تباعًا في خلق قابليّة لدى بعض الشباب التونسي ليكون فريسة سهلة لداعش ومُشتقاتها.
صحيح أن العلمانية تعني فصل الدّين عن الدّولة وتجعل من المعتقد الدّيني شأنًا شخصيًا لا تفرضه الدّولة ولا يُفرض عليها، إلا أن التنزيل العربي لهذه الرّؤية أو الفلسفة التي تعود جذورها إلى اليونان القديمة ثم إلى عصر التنوير، أتى مُصطدمًا مع المعتقد الإسلامي، بل مُحاربًا له متى سنحت له الفرصة.
ولأن تفسير هذا التطرّف يحتاج تأنّيا في إطلاق الأحكام العامة ويستوجب دراسة الأقطار العربية حالة بحالة، باعتبار اختلاف السياقات التاريخية التي دوّنت تاريخها وشكّلت معالم حاضرها، سأكتفي فيما سيلي هذه الأسطر بمُحاولة فهم نوازع التطرّف لدى جزء هام من نخب أقصى اليسار التونسي.
بالرّجوع تاريخيًّا لفترة ما بعد الاستقلال في تونس وقيادة الحبيب بورقيبة للبلاد، نجد أن العلاقة التي تشكّلت بين نظام الأخير وبين مكوّنات المشهد الديني في تونس، وإن لم تكن في أحسن حالاتها بالنّظر لانبهار الأخير بالنموذج الغربي وحمله بذور العلمانية الفرنكوفونية في فكره، إلا أنها كانت في حدود المعقول حسب مقاييس الصّدام والتسلّط العربيّة في تلك الفترة.
ولا أدلّ من ذلك ما يُصادفك في أثناء تصفّح مُذكّرات الحركة الإسلاميّة في تونس، وأساسًا مُذكّرات الجماعة الإسلاميّة التي، ورغم إقرارها بأن البلاد تعرّضت إلى حملة تغريب غير مسبوقة، إلا أنّها تمكّنت نسبيًّا من التّحرّك والنّشاط دعويًا براحة إلى حدود انكشاف أرشيفهم الذي كشف للنّظام حينها أنّه إزاء جسم مُنظّم، وهو ما دفع الأخير، رغم انبهاره بالنّموذج العلماني الغربي، إلى شنّ حملة اعتقالات ومُحاكمات ضدّ رموز الاتجاه الإسلامي في ثمانينيات القرن الماضي.
الوضع لم يختلف كثيرًا في عهد بن علي الذي أطاح ببورقيبة بانقلاب عسكري يوم 7 نوفمبر/تشرين الثاني 1987، فرغم رسائل الانفتاح والدّيمقراطية التي أرسلها عبر خطاب الانقلاب، إلا أن دخول الإسلاميين الانتخابات سنة 1989 واكتساحهم إياها، دفع النّظام لإعادة النّظر في طبيعة العلاقة وانخرط في مسار تجفيف ينابيع التديّن مدفوعًا بقراءة سياسية ترى في هذه الينابيع إحدى أهم خزّانات التعبئة الانتخابية بالنّسبة للإسلاميين، وبحقد فكري نابع من النّخب المُحيطة ببن علي، والتي كانت ترى في التيار الإسلامي مُهدّدا لمشروعها الفكري.
وسواء تعلّق الأمر بفترة بورقيبة أو بن علي، ورغم نقاط التباين الكثيرة بينهما، يلوح بوضوح أن النّخب العلمانية في تونس مزجت دائمًا بين التمثّل الفكري لعلاقة الدّولة بالدّين واستتباعاتها، وبين الصّراع السياسي على السّلطة، فعجز النّخب العلمانية عن صياغة مشروع سياسي ذي رواج، ثم العجز عن تبيئة أفكارها في التّربة التونسية؛ دفع الأخيرة إلى الانقلاب على مبادئ ظلّت حبيسة التنظير والشعارات، لفائدة المُغالبة السياسية غير العادلة المحكومة بقواعد الإقصاء والإلغاء.
وإذا ما تجاوزنا المُقاربة السياسية الفكرية لتناول الواقع العلماني المُتشدّد في تونس، وإذا ما غُصنا في الإطار الفكري ذاته للعلمانية التونسية الكلاسيكية باعتبارها إعادة إنتاج وفيّة للعلمانية الفرنكوفونية، فإننا لا يجب أن نعجب من علاقتها المتوتّرة مع الدّين.
فالمُقاربة الفرنسية تُعتبر من أكثر المُقاربات العلمانية تشدّدًا، وهو ما أشار إليه الباحثان في معهد بروكينغز للدراسات، وليام ماكنتس وكريستوفر ميسيرول، في مقال بعنوان "الرابط الفرنسي" نشر منذ ثلاثة أشهر في فورين أفيرز، كشفا فيه عن أن انعكاس حقيقة تطرّف العلمانية الفرنكوفونية يظهر من خلال أن أربعا من الدول الخمس، التي سجلت أكبر نسبة للتطرف - كرد فعل على التطرف العلماني - في العالم هي فرنكفونية.
ورغم وجود التيار العلماني المُتـطرّف في تونس، والذي قد يدفعه التّطرّف إلى غض البصر عن انتهاكات حقوق الإنسان بل لمُناصرة الأنظمة الدّكتاتوريّة متى تعلّق الأمر بالإسلاميين والمُتديّنين؛ فإن هذا لا يجب أن يُخفي حقيقة وجود تيار علماني مُعتدل حكم مع الإسلاميين إبان الثّورة، ويُمارس قناعاته اليوم بمبدئيّة ترى في الإنسان إنسانا. هذا من باب الإنصاف حتّى لا يوضع الجميع في سلّة واحدة.