31 أكتوبر 2024
تونس.. الانتقال الديمقراطي الصعب
خصصت إذاعة تونس الثقافية مجموعة برامج للاحتفاء بعيد ثورة الياسمين. وفي رصدها ومساءلتها الاحتقانات والاحتجاجات والمظاهرات التي اجتاحت عددا من المدن والمناطق، بذلت الإذاعة، على ما يبدو، مجهوداً كبيرا لتضع مناسبة الاحتفال في سياقاتها المختلفة، فعمدت إلى تقديم فقرات شعرية، إحداها من قصيدة "تونسي دفعة واحدة أو لا أكون"، للشاعر التونسي الراحل، محمد الصغير أولاد أحمد، ابن سيدي بوزيد معقل الثورة التي خلعت في 14 يناير/ كانون الثاني 2011 زين العابدين بن علي. ثم انتقلت الإذاعة إلى الراحل محمود درويش، وهو يقرأ بصوته "كيف نشفى من حب تونس الذي يجري فينا مجرى النفس". كما عمد معدو هذه الفقرات ومقدموها إلى برمجة أغنيات لمارسيل خليفة، خصوصا "إني اخترتك يا وطني حبا وطواعية"، وأغنيات أخرى لغيره، تحضر فيها نبرة وطنية.
من حق الإعلام التونسي أن يتباهى بما عاشته البلاد من تحولات ورجات إيجابية، ومن حق مختلف الفاعلين، بمختلف مرجعياتهم ومشاربهم، أن يشعروا بالاعتزاز. ومن حق النخب أن تهندس أحلامها، وترافع عن طموحاتها، فليس هناك أدنى شك في اقتناع غالبية الشعب التونسي بأن ثورته شكلت الشرارة التي غيرت أوضاعا كثيرة في تونس وخارجها. والخطوة الأساسية التي عبّدت الطريق لتأسيس تجربة ديمقراطية ناشئة في المنطقة العربية، على الرغم من العواصف والمشكلات والانحرافات التي تتناسل في الأزمنة الانتقالية.
وفي قراءة مسارات الثورة التونسية، يمكن القول إن بلورة وثيقة دستورية متطورة، وتمثل
مجمل المطالب والتطلعات التي عبرت عنها الثورة، شكلت لحظة سياسية وطنية مفصلية، لأن الدستور الذي خرج من رحم الثورة، وتحقق حوله إجماع غير مسبوق، وضع أسس الجمهورية الثانية وقواعدها التي راهنت عليها مكونات المجتمع التونسي، لتقطع مع عهد الاستبداد والقمع والانتهازية والزبونية السياسية، والتضييق على الحريات الفردية والجماعية وحرية التعبير والصحافة، غير أن بعض السياقات التي صاحبت مراحل ترسيخ هذه القطيعة وتوطيدها لم تكن في صالح انتقال ديمقراطي سليم وسلس، فالنظام الانتخابي في تونس، حسب مراقبين، أفرز تشكيلة برلمانية على مقاس القوى السياسية المؤثرة، في إشارة إلى حزبي نداء تونس وحركة النهضة، من دون أن تصل هذه القوى التي تمسك بالسلطة إلى الوفاء بوعود قطعتها على نفسها إبّان الحملات الانتخابية التي غالبا ما يتحول فيها المستحيل إلى ممكن. وزادت في تكريس مشاعر اليأس والإحباط، وتعميق الشرخ بين شارع منتفض يتمسك بتحقيق المطالب الاجتماعية والاقتصادية الملحة وأحزاب تتعرّض لاتهامات ثقيلة، ظاهرة التفتت والتشرذم التي باتت تعاني منها معظم الأحزاب، من دون أن يكون هناك سبب منطقي، تقتضيه الاختلافات التي يمكن أن تكون حيال التوجهات والاختيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الكبرى. وكانت هذه الظاهرة سببا في إبعاد المواطنين، خصوصا الشباب عن حقل السياسة والأحزاب. وما ضاعف من استفحال النفور وعدم الاكتراث بالسياسة انغلاق الحزبين الحاكمين على نفسيهما، والتمسك بالثنائية، بهدف إحكام السيطرة على السلطتين التنفيذية والتشريعية. وقد انعكس هذا كله على أداء الحكومة ومجلس نواب الشعب، إلى درجة جعلت معارضين وغاضبين عديدين يعتبرون الدستور مجرد وثيقة للاستهلاك الإعلامي، لأنه موجود على الورق فقط.
وفي تفسير انسداد الآفاق، وانتشار مشاعر الإحباط والعنف والتذمر، هناك من يعتبر، وبقوة، أن هاجس اقتسام النفوذ، والسعي بأي ثمن إلى المشاركة في السلطة، طغى على الانشغالات الاقتصادية والاجتماعية، فلم تتوفر شروط بروز إرادة فعلية لحل المشكلات والانكباب على الملفات الحارقة، وتسبب ازدياد رقعة الاحتجاجات واتساعها في إرباك دورة الإنتاج، والحد من فرص النمو والاستثمار، فطرح أمام هذا الوضع المعقد خيار اللجوء إلى الدّيْن الذي زج الاقتصاد التونسي في مسلسل من الأزمات، اضطرت معها الحكومة إلى فرض مزيد من الضرائب، ورفع أسعار المواد الاستهلاكية الأساسية لتمويل خزينة الدولة، وهذا ما أشعل فتيل الغضب في عدة مدن تونسية، للتعبير عن الرفض القاطع لهذه الإجراءات التي وصفت بأنها مجحفة في حق الطبقات الفقيرة والوسطى، بصرف النظر عن المسار الذي اتخذته الاحتجاجات، بسبب اندساس قوىً رأت في إجراءات محاربة الفساد والإرهاب والتهريب مساسا بمصالحها.
ومن أسباب هذا الاحتقان الإفلات من العقاب والتسيب والاستهتار بالواجب الوظيفي. وقد شجع هذا كله على الإجرام والعنف والاستهانة بسلطة القانون، علاوة على استعمال المال لإفساد السياسة وإفراغ عملية البناء الديمقراطي من محتواها، وانتشار المحسوبية والولاء والانتهازية، ما أعطى الانطباع أن هذا هو جوهر السياسة. كما ساهم ضعف الأحزاب في محدودية تأثيرها على المجتمع، حيث ظلت سجينة أدوار نخبوية، لا يتفاعل معها الشارع، سيما الطبقات الفقيرة والوسطى، علما أن من أولويات حكومات ما بعد الثورة توفير فرص العمل، غير أن أوضاع الاقتصاد التونسي، ومناخ الأعمال المتقلب، من عوامل حالت دون تحمس المستثمرين الأجانب والمحليين للمبادرة إلى الاستثمار في وضع سياسي مضطرب. وفي هذا الإطار، يسجل الرئيس التونسي السابق ومؤسس حركة "تونس الإرادة"، المنصف المرزوقي، غياب الحس الإصلاحي في حكومة يوسف الشاهد. وقال أخيرا لمجلة جون أفريك الفرنسية إنه كان في وسع تونس أن تصبح ما أصبحت عليه إسبانيا والبرتغال، لو أنها تحرّرت من القمع والخنق في عقد الثمانينيات. كان هناك رفض للتغيير من الرئيس الراحل، الحبيب بورقيبة. ومع وصوله إلى الحكم في تونس، فرض بن علي وضعا جامدا نحو خمسة وعشرين عاما، كانت رديفا لضياع فرص كثيرة بسبب قصر النظر.
وتعكس حالة التجاذب والاستقطاب السياسي الحاد بين الأحزاب الحاكمة وأحزاب المعارضة
مصدر قلق متزايد، خصوصا أن الاستحقاقات الانتخابية المقبلة ترخي بظلالها على الخطاب الحزبي، وتسهم في توتير الأجواء وتحويل الفعل السياسي إلى حلبة للعنف اللفظي والاتهامات المتبادلة. وهكذا، لا تتردد أحزابٌ في المعارضة في اعتبار أن الذين يوجدون في السلطة ليسوا أبناء الثورة، فيما يرى منتقدون الجبهة الشعبية بديل نظام ديكتاتوري وفاسد، فيما هذا النظام نتاج صناديق الاقتراع، ومنتخب بشكل ديمقراطي، وله شرعية شعبية وثورية. ويضيف هؤلاء إن أطرافا كثيرة تتقاطع مصالحها لإضعاف السلطة، تتقدمها لوبيات مستفيدة من الاقتصاد الموازي، ترفض دفع الضرائب، وتقف في وجه الديمقراطية الناشئة. وإذا كان لانتفاضة الشارع الثانية ما يبررها على المستويين، الاجتماعي والاقتصادي، في إشارة إلى ما اشتمل عليه قانون المالية 2018 من إجراءاتٍ، رأت فيها الطبقات الهشة والوسطى ضربا لقدرتها الشرائية، فإن القوانين ليست مقدسة، وتمكن مراجعتها. لكن ليس تحت الضغط والتخريب والاعتداء. هناك قانون مالي تكميلي، والدولة الديمقراطية لا تخضع للجماعات التخريبية، كما قال قيادي في حزب نداء تونس، وأضاف "لا نخشى على النظام من الشعب، نحن الأكثر ديمقراطية في العالم، وغضب الشارع نسبي، وهناك تهويل ومبالغة".
وفي جميع الأحوال، وبالنظر إلى شعور المواطن التونسي بأن لا شيء تغير على مدى سبع سنوات، تفاقمت فيها البطالة وانسدت الآفاق وارتفعت الأسعار، ما دفعه إلى رفع شعار "ماذا ننتظر لمكافحة الفساد"، فإن هذا كله يضفي على تجربة الانتقال الديمقراطي الصعب في أرض الياسمين خاصية الهشاشة والاضطراب، وتعوزها جرعة من الأخلاق والترشيد، حسب الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل. والمطلوب، حسب رأيه، مشروع ميزانية تكميليا وعدالة جبائية وإحداث صندوق الدعم ليذهب الدعم إلى من يستحقونه.
من حق الإعلام التونسي أن يتباهى بما عاشته البلاد من تحولات ورجات إيجابية، ومن حق مختلف الفاعلين، بمختلف مرجعياتهم ومشاربهم، أن يشعروا بالاعتزاز. ومن حق النخب أن تهندس أحلامها، وترافع عن طموحاتها، فليس هناك أدنى شك في اقتناع غالبية الشعب التونسي بأن ثورته شكلت الشرارة التي غيرت أوضاعا كثيرة في تونس وخارجها. والخطوة الأساسية التي عبّدت الطريق لتأسيس تجربة ديمقراطية ناشئة في المنطقة العربية، على الرغم من العواصف والمشكلات والانحرافات التي تتناسل في الأزمنة الانتقالية.
وفي قراءة مسارات الثورة التونسية، يمكن القول إن بلورة وثيقة دستورية متطورة، وتمثل
وفي تفسير انسداد الآفاق، وانتشار مشاعر الإحباط والعنف والتذمر، هناك من يعتبر، وبقوة، أن هاجس اقتسام النفوذ، والسعي بأي ثمن إلى المشاركة في السلطة، طغى على الانشغالات الاقتصادية والاجتماعية، فلم تتوفر شروط بروز إرادة فعلية لحل المشكلات والانكباب على الملفات الحارقة، وتسبب ازدياد رقعة الاحتجاجات واتساعها في إرباك دورة الإنتاج، والحد من فرص النمو والاستثمار، فطرح أمام هذا الوضع المعقد خيار اللجوء إلى الدّيْن الذي زج الاقتصاد التونسي في مسلسل من الأزمات، اضطرت معها الحكومة إلى فرض مزيد من الضرائب، ورفع أسعار المواد الاستهلاكية الأساسية لتمويل خزينة الدولة، وهذا ما أشعل فتيل الغضب في عدة مدن تونسية، للتعبير عن الرفض القاطع لهذه الإجراءات التي وصفت بأنها مجحفة في حق الطبقات الفقيرة والوسطى، بصرف النظر عن المسار الذي اتخذته الاحتجاجات، بسبب اندساس قوىً رأت في إجراءات محاربة الفساد والإرهاب والتهريب مساسا بمصالحها.
ومن أسباب هذا الاحتقان الإفلات من العقاب والتسيب والاستهتار بالواجب الوظيفي. وقد شجع هذا كله على الإجرام والعنف والاستهانة بسلطة القانون، علاوة على استعمال المال لإفساد السياسة وإفراغ عملية البناء الديمقراطي من محتواها، وانتشار المحسوبية والولاء والانتهازية، ما أعطى الانطباع أن هذا هو جوهر السياسة. كما ساهم ضعف الأحزاب في محدودية تأثيرها على المجتمع، حيث ظلت سجينة أدوار نخبوية، لا يتفاعل معها الشارع، سيما الطبقات الفقيرة والوسطى، علما أن من أولويات حكومات ما بعد الثورة توفير فرص العمل، غير أن أوضاع الاقتصاد التونسي، ومناخ الأعمال المتقلب، من عوامل حالت دون تحمس المستثمرين الأجانب والمحليين للمبادرة إلى الاستثمار في وضع سياسي مضطرب. وفي هذا الإطار، يسجل الرئيس التونسي السابق ومؤسس حركة "تونس الإرادة"، المنصف المرزوقي، غياب الحس الإصلاحي في حكومة يوسف الشاهد. وقال أخيرا لمجلة جون أفريك الفرنسية إنه كان في وسع تونس أن تصبح ما أصبحت عليه إسبانيا والبرتغال، لو أنها تحرّرت من القمع والخنق في عقد الثمانينيات. كان هناك رفض للتغيير من الرئيس الراحل، الحبيب بورقيبة. ومع وصوله إلى الحكم في تونس، فرض بن علي وضعا جامدا نحو خمسة وعشرين عاما، كانت رديفا لضياع فرص كثيرة بسبب قصر النظر.
وتعكس حالة التجاذب والاستقطاب السياسي الحاد بين الأحزاب الحاكمة وأحزاب المعارضة
وفي جميع الأحوال، وبالنظر إلى شعور المواطن التونسي بأن لا شيء تغير على مدى سبع سنوات، تفاقمت فيها البطالة وانسدت الآفاق وارتفعت الأسعار، ما دفعه إلى رفع شعار "ماذا ننتظر لمكافحة الفساد"، فإن هذا كله يضفي على تجربة الانتقال الديمقراطي الصعب في أرض الياسمين خاصية الهشاشة والاضطراب، وتعوزها جرعة من الأخلاق والترشيد، حسب الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل. والمطلوب، حسب رأيه، مشروع ميزانية تكميليا وعدالة جبائية وإحداث صندوق الدعم ليذهب الدعم إلى من يستحقونه.