تونس: "حرب أهلية" داخل معسكر الوسط عشية الانتخابات

08 فبراير 2019
شعبية "تحيا تونس" ليست واضحة إلى حدّ الآن(ياسين غيدي/الأناضول)
+ الخط -
اختصار مقتضب للمشهد السياسي التونسي يضع الجبهة الشعبية (تجمع لعدد من الأحزاب اليسارية والقومية) على اليسار، وأحزابا ذات انتشار محدود أخرى وحركة "النهضة" على اليمين، فيما توجد كل الأحزاب الباقية في منطقة الوسط، بعضها في يسار الوسط وأكثرها على يمينه. ومع اقتراب المواعيد الانتخابية عموماً، ينتعش الصراع على هذه المنطقة السياسية التي تتنازع فيها كل الأحزاب والتي في صلبها حزب "نداء تونس". غير أنّ التنافس هذه المرة سيكون على أشده، نظراً للصراعات الأصلية الموجودة بين هذه الأحزاب، والتي يغذيها انقسام "نداء تونس" إلى كانتونات صغيرة من ناحية، ولأن الجميع يتوهّم أنّ انتخابات 2019 ستكون فاصلة تاريخياً لتونس، ويصورها البعض على أنها نهاية العالم وكأن لا انتخابات بعدها، من ناحية أخرى.

وتسكن في منطقة الوسط أحزاب كثيرة، أهمها "نداء تونس" ومشتقاته الصغيرة، و"تحيا تونس"، و"مشروع تونس"، و"آفاق تونس"، و"الوطني الحر"، و"الجمهوري" و"البديل" وغيرها من الأحزاب الكثيرة الدستورية أو التجمعية. وبعيداً عنها بخطوات وعلى يسارها، يتمركز حزبا "حراك تونس الإرادة" و"التيار الديمقراطي"، وبينهما صراع خفي لأنهما يطرحان بديلاً مغايراً متشبثاً بمقولات الثورة، ويحملان تقريباً المشروع السياسي نفسه ولديهما جمهور مستهدف واحد يتنافسان عليه.

وبصرف النظر عن هذه الصراعات الثنائية داخل كل مجموعة من الأحزاب، ينصبّ التركيز على صراع يمين الوسط، الذي كان يمثّله في انتخابات 2014 حزب "نداء تونس" ورئيسه الباجي قائد السبسي، الذي تكفّل وقتها بمهمة تجميع هذه العائلة لإحداث ما سماه "التوازن الضروري" إثر انتخابات 2011 التي جاءت بالترويكا وعلى رأسها حركة "النهضة"، وقاد حملة منافستها قبل أن يتحالف معها بعد ذلك.

لكن الأوضاع مغايرة هذه المرة، لأن ذلك الالتقاء الذي جمع أطيافاً يسارية ونقابية ودستورية وليبيرالية، انقسم إلى "حوانيت" (دكاكين) صغيرة، كما يسميها التونسيون، فيما الصراع على أشده بين "نداء تونس" وحزب "تحيا تونس" التابع لرئيس الحكومة يوسف الشاهد.
 
"تحيا تونس"... هل يرث "النداء"؟
جوهر المعركة بين الحزبين يتعلّق بمحاولة "تحيا تونس" وراثة ذلك الحزب المؤسس الذي رفع شعار تعديل المشهد السياسي في مواجهة "النهضة" وإعادة هيبة الدولة. فيوسف الشاهد، ابن "الحزب الجمهوري" الذي انضم لـ"نداء تونس"، دفعته الظروف (صعوده إلى الحكومة ومعركته مع آل السبسي) إلى التفكير في تأسيس حزب جديد يقوم على تجميع الغاضبين من "النداء" ومن طريقة إدارته، ثم دعوة آخرين من أحزاب مختلفة إلى الالتحاق به. وهو ما يتم بشكل مكثّف حالياً، ويلاحظ اليوم في الحزب الجديد وجود شخصيات سابقة من "الجمهوري" و"آفاق تونس" و"مشروع تونس" وحتى من حزب "المسار" المحسوب على اليسار.
وقد ذهبت قيادات "تحيا تونس" إلى كل الجهات للالتقاء بكوادر "النداء". وفي السياق، لا يخفي مصطفى بن أحمد، رئيس كتلة "الائتلاف الوطني" الداعمة للشاهد، وأحد أبرز منظري الحزب الجديد، (وهو شخصية من سليلة العائلة النقابية)، أنّ "المشروع الفكري لنداء تونس، والأهداف التي تأسّس عليها لا تزال صالحة، ولكنها تحتاج إلى ماكينة حزبية ديمقراطية تتلافى أخطاء النداء"، بحسب ما يقول في تصريحات له.

ومع أن هذا يبقى مجرّد شعار، إذ يعتقد كثيرون أنّ الحزب الجديد يحمل معه التناقضات الداخلية نفسها التي أطاحت بـ"النداء" وسيلقى المصير نفسه، فإنّ المتأمّل في تكوين "تحيا تونس" إلى حدّ الآن، يلاحظ أنه حزب عمودي، بدأ يتأسّس على هرم مقلوب، وانطلق من القمة إلى القاعدة، بعكس ما يروجه قياديوه، الذين يأملون قلب الصورة بسرعة و"شفط" قواعد "النداء" التي أعيتها الصراعات، ولم تلحظ أي خطوة لناحية تحقيق وعود ذلك الحزب. لكن شعبية "تحيا تونس" وانتشاره في القواعد ليست واضحة إلى حدّ الآن، على الرغم من أنّ الاتهامات التي توجه إليه من أحزاب منافسة كثيرة، قد تعكس تخوفاً من إمكانية توسّعه بسرعة، ما يؤكد أنه جاء تلبية لحاجة سياسية لدى عدد من الكوادر السياسية والإدارية، إثر الفراغ الذي تركه "النداء" بحكم صراعاته التي أدت إلى تفككه.

 
هل يندثر "النداء" في انتخابات 2019؟
يبدو حزب "نداء تونس" في هذه الفترة مشوّش التفكير، ويستعدّ بمعية بقية منافسي الحزب الجديد للمعركة، بتوجيه أهم اتهام ممكن لهذا المولود الجديد، وهو أنّ رئيسه وقياداته أخفقت على امتداد سنوات في تحقيق أي شيء فعلي لحياة التونسيين، ولا شيء يبرر بالتالي موسم الهجرة إليه، سوى أنه حزب الحكومة، كما قال السبسي نفسه. ولذلك سعى الأخير إلى إبعاد الشاهد عن السلطة التنفيذية حتى ينفضّ الجمع من حوله، في ظلّ اعتقاد كثيرين أنّ أهم عامل في صعود "تحيا تونس" هو وجود الشاهد في الحكومة، أي في صدارة المشهد السياسي والإعلامي. ولكنّ "النهضة" ترفض إلى حدّ الآن التخلي عن دعم الشاهد، ولذلك لن يغفر لها السبسي أبداً نفخها في هذا المولود الجديد، ويسعى بكل قواه وأدواته المتاحة إلى ضرب الاثنين معاً، خصوصاً أنّ المسألة بالنسبة لـ"نداء تونس" هي معركة وجود بكل ما للكلمة من معنى.
ويسعى "النداء" حالياً إلى لملمة شتاته، وقد كوّن أخيراً لجنة لإعادة الغاضبين إلى صفوفه، وربما يخفي أسلحته لآخر مراحل المعركة المقبلة، عندما تتّضح الرؤى بشكل جلي، لأنه لا يزال هناك الكثير لاختباره، وربما تفيد استراتيجية الضغط على "النهضة" من الجهات كلها.
 
هل تستفيد "النهضة" أم تدفع الثمن؟
منطقياً، يبدو تشظي "النداء" إلى أحزاب كثيرة، عاملاً إيجابياً لصالح "النهضة"، فقد جاءت الأخيرة إلى المشهد السياسي بعد مواجهة الحزب القوي الذي كان متماسكاً في 2014، فيما كانت هي خارجة من تجربة سلبية في ذلك الوقت. فكيف وهذه الأحزاب مشتتة ومتناحرة اليوم؟
لكنّ الحساب ليس بهذا الشكل البسيط، فـ"النهضة" قد تدفع ثمناً باهظاً أمام مشهد مرتبك وغير متوازن، وقد تكون مجبرة على أدوار ليست مستعدة لها بالضرورة. فالمشهد الداخلي والإقليمي والدولي ليس جاهزاً بعد لتقبّل فكرة أن تقود "النهضة" حكومة، كما تتوهّم بعض قياداتها، وقد تتحمّل الحركة مسؤولية هذا التشظي الذي يقود، بحسب ما يظهر، إلى ضعف دور الدولة ومؤسساتها، وهو ما سينعكس على مستقبلها ومستقبل التجربة السياسية ككل. وتبدو "النهضة" أيضاً مشتتة التفكير بين كل هذه الاحتمالات في ظلّ تصاعد الطموحات لديها، وهي بحاجة إلى حزب قوي يعادل معها المشهد. وربما تكون مباركتها حزب "تحيا تونس" الجديد، فكرة سديدة، ولكنها قد تشكّل أيضاً خطيئة سياسية كبرى إذا ما تغيّرت المعطيات ونجحت محاولات محاصرتها.

ورغم أنّ "النهضة" حاولت ألا تكون جزءاً من هذه المعركة في البداية، وسعت إلى النأي بنفسها عن صراعات "النداء"، فإنها آثرت في النهاية أن تتحوّل إلى لاعب مهم، بعد أن دعمت استقرار الحكومة وبقاء الشاهد، مع السعي إلى التفريق بين المسارين الحكومي والحزبي. ولكن ذلك كان بمثابة العبث السياسي، لتلازم المسارين بالضرورة، ما دفع خصومها لاعتبارها سبباً رئيسياً وداعماً أول للحزب الجديد، إلى حدّ وصف البعض للحكومة بأنها حكومة "النهضة" واتهام الحركة بإدارة اللعبة بأكملها.
 
فشل تجميع العائلة الوسطية
تدرك كل مكونات الوسط أنّ تفككها يصب مباشرة في صالح منافستها، "النهضة"، وتعلن قياداتها عن ذلك صراحة، ويدعو الجميع في الوقت نفسه إلى التجمّع، لكنّ حظوظ نجاح ذلك ضعيفة، لأن كلاً من هذه المكونات يريد أن يقود العملية بنفسه. وفي السياق، شدد النائب عن كتلة "مشروع تونس"، حسونة الناصفي، على "ضرورة توحيد عائلة الوسط، ودخول الاستحقاق الانتخابي المقبل بشكل موحّد". وكشف في تصريح لإذاعة "شمس" المحلية أخيراً، أنّ "هناك مشاورات تجري حالياً بين مشروع تونس وحزب تحيا تونس وحزب نداء تونس، من أجل توحيد العائلة الديمقراطية"، موضحاً أنّ الأمين العام لحزبه محسن مرزوق، "قدّم تنازلات عدة بهدف تحقيق هذا المبتغى، على غرار التنازل عن الزعامة والبقاء في الصفين الثالث أو الرابع"، على حد تعبير الناصفي.

وفي توضيح لـ"العربي الجديد"، قال الناصفي إنّ "هذه المشاورات تمّت بين قيادات من هذه الأحزاب لمحاولة سبر الاستعداد لذلك"، معترفاً بأنّ "عملية التوحيد صعبة للغاية ولا أفق حقيقياً لها بسبب التراكمات المعلومة للجميع". لكن عضو كتلة "مشروع تونس" أصرّ على أنه رغم ذلك "لا ينبغي فقدان الأمل، لأنه ما من حلّ آخر سوى أن تجتمع هذه العائلة ويقدّم كل من أفرادها التنازلات المطلوبة، وإلا فإنّ الجميع سيكون خاسراً في النهاية".
 
مفاجآت الانتخابات الممكنة
مع كل هذه الأحزاب المتنافسة، دخلت مكونات جديدة على المشهد، ضمن مبادرات مواطنية وحركات جديدة، أغلبها من شخصيات سياسية ونواب ووزراء سابقين ومثقفين، محاولةً طرح نفسها كبديل عن المشهد الحالي الذي تصفه بـ"المتعفّن"، والذي قاد إلى هذا العزوف الجماعي عن الأطر السياسية وأدى إلى عزوف انتخابي كبير، ظهر بوضوح في الانتخابات البلدية الأخيرة. ويبدو أنّ هذه المكونات تملك حظوظاً حقيقية، فقد بيّنت الانتخابات البلدية بوضوح أنّ التصويت كان بالأساس للمستقلين، وهو ما يعني أنّ الجمهور الانتخابي يبحث عن بديل فعلي. ولذلك تتصاعد أسهم التيار الديمقراطي في استطلاعات الرأي بشكل واضح، والذي سيكون عليه حسم المنافسة مع "حراك تونس"، حزب رئيس الجمهورية السابق، المنصف المرزوقي، الذي يشغل دائرة الاهتمام نفسها، والذي ارتفعت أسهمه بدوره بعد تكرر ظهوره أخيراً في البرامج التلفزيونية والاجتماعات الشعبية. وإذا ما تواصل هذا الصراع المتعدد بين أجنحة السلطة وأحزابها، فإنّ الناخب قد يذهب للبحث عن بدائل أخرى وقد يُحدث مفاجآت في هذه الانتخابات الغامضة.