تونسيون يعنّفون أهلهم

27 ديسمبر 2019
للأهل احترامهم الكبير في تونس (فاضل سنّا/ فرانس برس)
+ الخط -

تمسكت والدة تونسية ستينية بالمحكمة الابتدائية بصفاقس أخيراً بضرورة سجن ابنها الثلاثيني بعدما عنّفها جسدياً ومعنوياً. أصرت الأم على حضور الجلسة وطلبت من القاضي تسليط العقاب الذي يستحقه. وبالرغم من إصرار الابن على طلب العفو، إلا أن الأمّ الملتاعة تمسكت بسجن ابنها الذي سبق سجنه في ثلاث مناسبات، بحسب ما يتحدث المحامي محمد الفقي لـ"العربي الجديد".

حالات العنف المسلّط على الآباء والأمهات من قبل الأبناء، بات من الحالات المتسللة إلى المجتمع التونسي، وإن بقيت منبوذة مجتمعياً، وعادة ما يبقى مرتكبها موصوماً بالعار في محيطه العائلي، وحتى داخل السجن.

في شهر سبتمبر/ أيلول الماضي، شهدت مدينة المنستير بالوسط الشرقي، تعنيف أربعيني أباه، وكان الابن في حالة غضب شديد بعدما تشاجر مع زوجته، ولم يكتفِ بذلك بل اعتدى على بقية أفراد عائلته بالعنف الشديد، قبل إلقاء القبض عليه.


وشهدت صفاقس أيضاً، في مايو/ أيار الماضي، جريمة قتل ابن لوالدته البالغة من العمر 50 عاماً، باستخدام ساطور ضربها به على رأسها، كما عمد الجاني البالغ من العمر 29 عاماً، إلى إضرام النار في دراجته النارية لمنع الجيران من دخول المنزل وإنقاذ الضحية.

قبل عامين، تمكنت أجهزة الأمن في مدينة سوسة من مداهمة منزل بعدما احتجز ابن والدته، ولولا مبادرة أحد الجيران إلى تقديم بلاغ، لما انتبه أحد إلى الأم التي أقرت بأنّ ابنها كان يعنفها مؤكدة احتجازه لها بسبب مشاكل عائلية.

يقول الفقي إنّ اعتداء الأبناء على الآباء اتخذ عدة وجوه، وأغلب الحوادث المسجلة سببها المصروف اليومي الذي يمنحه الآباء للأبناء، ومع عدم تأمينه أو التخلف عنه يتم الاعتداء بالعنف الجسدي واللفظي على الوالدين، خصوصاً الطاعنين في السنّ، مبيناً أنّ المحاكم تعج بهذا الصنف من القضايا. وبالرغم من أنّه في أغلب الحالات، يُسقط الأهل حق الملاحقة القضائية عن أبنائهم، فهناك من يصر على ذلك.

يوضح الفقي أنّه من خلال حوادث وقضايا العنف المتواترة، فإنّ تعاطي المخدرات من أبرز أسباب تعنيف الأبناء لأهلهم، مؤكداً أنّ العنف قد يتخذ وجوهاً خطيرة تصل إلى حد القتل. يضيف أنّ مشاكل الميراث وراء بعض حالات العنف، لكنّها حالات قليلة، مشيراً إلى أنّ هناك بعض الحالات التي تكون نتيجة التفكك الأسري والطلاق، أو نتيجة ما يعيشه الأبناء من تهميش ولامبالاة، وهو ما يجعل التوازن والتربية داخل الأسرة مختلين.

يشير المتخصص في علم اجتماع الجريمة سامي نصر، في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أنّ تعنيف الأبناء آباءهم يندرج ضمن العنف ككلّ، فالعنف الذي استشرى في المجتمع قد يتحول إلى لغة تواصل، وإلى أداة تعبير لدى البعض، وهناك دوافع تؤدي إلى العنف الشديد تجاه الأبوين، فالعنف في المدارس والملاعب ووسائل النقل وداخل الأسرة وخارجها، يتطور وينتقل من فعل ورد فعل إلى عنف تجاه المقدسات. يفسر أنّ العلاقة بين الأبناء والآباء مقدسة، لكن في غياب الوعي، يصبح العنف تجاه أقرب الناس لا سيما الأبوين مباحاً، وهو من أخطر أنواع العنف، مؤكداً على أنّ نسبة هذه الجرائم لا تتعدى واحداً في المائة من إجمالي الجرائم، لكن لا بدّ من معالجة الأسباب التي أدت إليها، قبل غيرها.

يوضح نصر أنّ اعتداء الأبناء على الأهل حالة شاذة، ولم يتحول الى ظاهرة، لكنّ الثقافة العنفية تفرز سلوكاً منفرداً قد يتحول إلى ظاهرة، في ظلّ غياب معالجته. يشير إلى أنّ الأسرة التونسية ضربت في الصميم، فالعلاقات الأسرية لم تعد كما كانت سابقاً، بسبب الفتور والتفكك، وقد تطور العنف اللفظي إلى عنف جسدي، كما أنّ بعض البرامج والمسلسلات تشجع على العنف من خلال الخطابات التي تسوقها. يشير إلى أنّه على الرغم من تدهور بعض القيم في المجتمع التونسي، فهذا الوجه من العنف، يبقى مستنكراً يثير الاشمئزاز، فمن يعنّف أحد والديه يتحول إلى منبوذ من الجميع، ولهذا النبذ مفعول أقوى من القانون، لأنّ مرتكبه يكون موصوماً بعار اجتماعي.

يتابع نصر أنّه أجرى بحث دكتوراه حول الحياة السجنية، وخلص إلى أنّ أكثر شخص منبوذ داخل السجن هو الذي يعنف والديه، فالبعض قد يمنح رشاوى للمشرف على الغرف لإخفاء جريمته، خصوصاً إذا تعلقت بتعنيف والديه، وقد يزعم أنّها قضية سرقة أو تبادل عنف مع الجيران أو الغرباء، خوفاً من تعرضه للنبذ، وقد يصل الأمر إلى حدّ اعتداء بقية السجناء عليه بمجرد معرفتهم بتعنيفه أحد والديه. ويضيف أنّ هذا النبذ يكون داخل السجن ومن محكومين: "فما بالك بالمحيط الخارجي وبالمجتمع، إذ إنّ العناوين التي يكون ضحيتها أحد الأبوين تستأثر باهتمام الرأي العام وتعاطفه".



يفيد نصر بأنّ الاعتداءات التي تُرتكب بحق الوالدين، غالباً ما تكون تحت تأثير المخدرات، فالشخص المدمن قد يرتكب جرائم عدة بسبب أبسط الأسباب، وأحياناً تكون جرائم خطيرة جداً تصل إلى حد القتل والتنكيل بالجثث، لافتاً إلى أنّه في الوقت الذي يصرّ فيه بعض الآباء على سجن أبنائهم، فإنّ أكثرهم يتنازلون عن القضايا التي يرفعونها لأنّهم يأملون دائماً بأنّ هناك فرصة للإصلاح، وأنّ الابن المعتدي سيشعر بالندم إذا قوبل فعله بمحبة أهله وتسامحهم. ويشير إلى أنّ معالجة هذه المشكلة تتطلب من المجتمع المدني أن يلعب دوره في الإحاطة بهؤلاء الأبناء العاقين، وجعلهم يشعرون بفداحة ما يقومون به، معتبراً أنّه لا بد من إحياء القيم التي يقوم عليها المجتمع التونسي، خصوصاً أنّ المجتمعات التي تشهد ثورات كبيرة لا يجني ثمارها من عاشوا الثورة لأنّهم يعيشون أزمات اجتماعية واقتصادية وأخلاقية، وبالتالي لا بدّ من استراتيجيات للحدّ من الأزمات الأخلاقية.
المساهمون