في الطريق إلى ساحة "باسنتابور دوربار" في كتماندو، بين المعابد التي تهدّم بعضها إثر الزلزال الأخير، كان هناك من يوقف الرجل وينحني ضامّاً يديه ملقياً التحية النيبالية: "ناماستيه". يرد الشاعر تولاسي ديواسا (1941) ويقف ليتكلم مع كل منهم بضعة لحظات، ثم نكمل طريقنا في ساحة بُنيت سنة 1501.
من فجوات الضجيج، يلقي ديواسا كلمات: "الشعر يجب أن يمشي، أن يخرج وأن تصبح له حياة"، ماذا تقصد بذلك؟ نذهب إلى زاوية هادئة في المتحف الذي دخلناه للتو، فيبدأ بقراءة الشعر.
يظهر وجه الشعر أولاً حين يقرأ قصيدة بالنيبالية. المعاني لم تصل بعد، ملامح الكلمات هي التي تتشكل مع رنّة اللغة ووقع الأصوات. أين يصمت هذا المقطع ويبدأ الآخر؟ أين يكتمل؟
كانت الأصوات جديدة على أذن من يسمعها، لكنها تقوده مثل أعمى. تشعر أن اللغة ريفية، نبرة ترقّ وتقوى مثل ناعورة. ثم حين يقرأ ديواسا القصائد بالإنجليزية، يتأكد إحساسك وتبدأ لعبة تركيب المعاني على الأصوات التي كانت مجهولة منذ قليل.
يكتب ديواسا الـ "غودي كابيتا" أي قصيدة النثر، والتي مرّ على ظهورها في نيبال مائة عام، بحسب الشاعر، والتي أخذت عدة أشكال قبل أن توضع في مصفاة النثر وتتحرّر تماماً من الأوزان النيبالية التقليدية والمواضيع التي كانت معظمها عن الطبيعة والحكمة البوذية والتقاليد الهندوسية، والتأملات الكبرى في مساحة نائية عن الأنا اليومية ومشاغلها العادية.
يقول ديواسا "أخذ الأمر وقتاً وتطلب شجاعة أن نكتب عن الحياة اليومية وأن نقول شيئاً عن الإنسان المعاصر؛ وهو "عيسى" الذي يصلب كل يوم".
يعدّ ديواسا أحد الأسماء التي برزت في قصيدة النثر النيبالية التالية لحقبة هيمنت عليها الرومانسية المتخففة إلى حد كبير من الأوزان دون أن تتمكن من تحقيق الأمر نفسه على صعيد الموضوع.
كان عرّاب هذا الشكل الشاعر لاكشمي براساد ديفكوتا (1909 – 1959) أحد المتمرّدين السنسكريتيين الكبار على تقاليد الشعر النيبالي، والذي حمل لقب "ماها كافي" أي الشاعر العظيم: "سقط من الغيوم السوداء، الذي عاش في الظلام. أهو إله أم متسول؟ يجوب من بيت إلى بيت يتحدث بلحن يُقاسي، وملء قلبه رأفة".
وقد يعود السبب في صعوبة التغلّب على المواضيع الكبرى المألوفة للقصيدة النيبالية في ذلك الوقت، العصر المظلم للكتابة الذي امتد منذ 1847–1909، إنها السنوات التي شهدت منعاً لاستخدام لغات معينة، واعتقالات للكُتّاب، ومصادرة لكتب تراثية وحديثة.
ستعود هذه السنوات للظهور فيما بعد، في مرحلة تعرف بـ "سنوات السجن" منذ 1941 وحتى 1945، والتي كانت نتيجتها محاولة التغلب على الشكل الشعري، دون أن ينسحب ذلك على المواضيع التي لم تبدأ إذابة الجليد عنها حتى أواخر الخمسينيات.
هنا لا بد أن نذكر أن قصيدة ديواسا "حديقة حيوان" التي نشرها سنة 1961 عُدّت مفاجئة شعرياً بمضمونها الجديد ونثريتها العالية. وكان لمجلة أدبية تدعى "روبريخا" الفضل في التأسيس لقصيدة نثر نيبالية حديثة، مثلها مثل مجلات الأدب التي فعلت الأمر نفسه في مناطق مختلفة من العالم. إضافة إلى ذلك انتشر التعليم الجامعي وكان معظم شعراء هذا الجيل ممن أقبلوا على دارسات الآداب الأجنبية والفلسفة.
كانت بداية الخلاص من الشكل الشعري القديم الصارم مع ما أطلق عليه "القصيدة السردية" التي أدخلها ديفكوتا كتابة في متن الأدب النيبالي وكان أشهرها "مونا مادن" التي قال يوماً صاحبها "حين أموت، أحرقوا كل كتبي عدا مونا مادن" والتي اقتبسها من أغنية شعبية طويلة شاعت في نيبال في القرن الثامن عشر بعنوان "لم يمض شهر منذ أن أتيت"، تروي الأغنية حكاية شعبية عن الزوجة مادن التي تتوسل إلى زوجها مونا ألاَ يسافر إلى الجبال، لكنه لا يستمع إليها وحين يعود يجدها ميتة.
مثل هذه الأغاني الشعبية والحكايات ألهمت أيضاً ديواسا، الحاصل على الدرجة الأكاديمية العليا في الأدب المقارن، وهو أستاذ متنقل بين جامعات أميركية وبريطانية ويابانية. وضع الشاعر عشرات الكتب لتوثيق التراث الأدبي الشعبي النيبالي، وأصبح شغوفاً بملاحقة أغاني الرعاة لما يفوق 140 إثنية والمتناقلة بـ 140 لغة محكية.
"أنا ملتزم بالشعر، إنه طريقتي في فعل الأشياء"، عبارة من هذا النوع تبدو متوقعة وكأنها قيلت من كل الشعراء، لكنها في حالة الشاعر النيبالي ديواسا جاءت مثل خلاصة عمّا يعبر عنه بقوله "كنت أريد أن أكبر كرسّام، ولمّا لم يكن ذلك متاحاً كنت أفكر بطريقة للتواصل مع مشاعري ولم أجد سوى الكلمات".
الكلمات هي أسباب يعيش عليها ديواسا، ويعيد بناء علاقته مع الطبيعة التي لم تكن صديقته دائماً رغم حضورها القوي ككائنات في قصيدته، لقد جرف النهر خمسة أفراد من عائلته. في قصيدته "صورة ذهنية" يقول: "دائماً هناك شجرة في إنسان، وإنسان في شجرة. إنسان الشجرة ينمو، يصبح أطول من شجرة تنمو في إنسان".قصائد مُترجمة للشاعر