توفيق صالح يحكي عن أيامه الطويلة في السينما (4/5)

11 سبتمبر 2019
+ الخط -

نتابع الحلقة الرابعة من حوار توفيق صالح:


ـ قبل أن أختم الكلام عن فيلمك الأشهر (المخدوعون) المأخوذ عن رواية (رجال في الشمس)، هل تم حذف شيء من الفيلم على يد الرقابة السورية كعادة أفلامك مع الرقابة المصرية؟

لم يتم حذف أي شيء من الفيلم، والفيلم نجح جدًا في سوريا عندما عُرض، لكن برضه الحقيقة الفيلم لم يخل من المشاكل والأزمات، يعني أول ما انتهيت من الفيلم، تم عرضه على مخرجي المؤسسة السوريين، فبعضهم للأسف قالوا إن المخرج ده نصب على مؤسسة السينما لأنه ما عملش فيلم بل مسك الكتاب صفحة صفحة وعمل الفيلم، وقالوا إن الفيلم دون المستوى اللائق للعرض، وطلع تقرير منهم وأوقف الفيلم قبل عرضه، لكن بالصدفة بعدها بشهر قرروا عمل مهرجان دمشق للسينما البديلة. فجاء بعض أصدقائي منهم الناقد سمير فريد الذي كان ينظم المهرجان. ومن غضبي عرضت عليه رؤية الفيلم ليخبرني برأيه، قال لي ده فيلم كويس جدا، واقترح على المسؤولين عرض الفيلم في ختام المهرجان، فرفضوا قائلين إن هذا الفيلم مسيء فنياً لسوريا، دون إبداء أي أسباب.

بعد كده جاء صديق سينمائي تونسي اسمه الطاهر بن شريعة وكان ينظم مهرجان قرطاج ففرجته على الفيلم، أعجب جدا بالفيلم وراح جاب نقاد فرنسيين موجودين في سوريا لحضور المهرجان وورّاهم الفيلم، تخيل إنهم رفضوا يحضروا عروض المهرجان في اليوم التالي، وقعدوا في مكتب مدير المؤسسة عشان يضمنوا إن الفيلم يسافر فرنسا، كان موعد مسابقة مهرجان كان قد انتهى، بس في حاجة اسمها نصف شهر المخرجين وفعلا لم يسافروا إلا بعد ما ضمنوا إرسال النسخة، وكان ذلك قبل يومين من إغلاق موعد الاشتراك في فعالية (نصف شهر المخرجين)، وافتتحوا به الفعالية المهمة واللي بيهتم أبرز نقاد العالم بحضوره، والحاضرين وصفوا الفيلم بأنه مفاجأة، وكان المفروض أن يعرض مرتين، لكنه عرض 3 مرات بناء على طلب الجماهير.

ـ هل حضرت هذا الاحتفاء بنفسك؟
لا، للأسف لأنهم بعثوا للمؤسسة في سوريا تذكرتين، فمدير المؤسسة راح وخد معاه موظف من عنده، ورفض سفري لأني مش موظف، لكنه حكى لي أن الناس كانت تجلس في طرقات السينما من الزحام، وبعد كده اشترى الفيلم موزع فرنسي في كان وعرضه كذا عرض، وبقى يلف كل نوادي السينما في فرنسا وتجمعات العمال وكان أول فيلم عربي يحدث له هذا الاحتفاء، وبعدها راح مهرجان قرطاج وحصل علي الجائزة الأولى، وتكلمت عنه كل الصحافة الفرنسية والأوروبية المهتمة بالسينما.


ـ طيب، لماذا لم يدفعك كل هذا النجاح إلى تكرار العمل في سوريا؟
للأسف، سوريا رفضت تشغلني بعد هذا الفيلم. واضطررت أسافر إلى العراق للتدريس سنة 73.

ـ كان إيه السبب؟
اتهموني بتعطيل فرص مخرجيهم السوريين، وبعدين اتضح إنه كان في كلام كتير تم كتابته في الصحف السينمائية الأوروبية والعربية بيقول إن بداية السينما السورية هي فيلم توفيق صالح. إزاي ده؟ هم عايزين واحد سوري، يعني حساسيات لم تكن تخصني لكني للأسف دفعت ثمنها.

ـ لكنك قررت أن تذهب إلى العراق بعدها بدلا من الرجوع إلى مصر، هل لم يكن من المتاح لك وقتها أن ترجع إلى مصر؟
لا، لم أكن راغبا في الرجوع، يعني أنا أحسست منذ 67 أن كل الآمال تحطمت شيئا فشيئا وأنا اعتبرت نظام السادات نظام بيعمل ضد مصالح مصر منذ مجيئه، لأنني كنت أعرف أن السادات منذ أيام عبد الناصر عندما ذهب في زيارة للكونجرس الأمريكي همّ اشتروه، وأعرف أنه يخدم أمريكا والسعودية وكنت منتظر تحولات خطيرة وحدث أكثر مما كنت أتخيله. وبعد موت السادات قلت أرجع وكنت حاسس إن ده الوقت المناسب لعمل شيئ مفيد، بس لما جيت لقيت إن مش قادر أشتغل أي حاجة، مرفوض من كل الجهات السينمائية، سيبك إن في 10 أو 15 ناقد بيكتبوا عني، ده كلام مش فعلي، سيبك إني دلوقتي أخيرا بقى في لجان في وزارة الثقافة أحضرها، لكن أنا إلى الآن لا تأتيني أي دعوات رسمية من وزارة الثقافة، صحيح لي علاقات لكن علي مستوى الدولة لا أحد يعرفني.

ـ حتى عندما ظهر منتجون يصرفون علي السينما الجديدة لم يعرض أحد عليك أن تعمل معه؟أنا كنت من فترة بسيطة مع واحد من المنتجين الجدد، وكان بيننا كلام في مشروع كنت متحمس له، وراحوا بعض السينمائيين قالوا له: "اشمعنى توفيق صالح. ده عصبي. ده ما يفهمش سينما".

ـ مين دول؟
يعني مخرجين وممثلين في الوسط من جيل غير جيلي خالص، وقلت للرجل: يعني كل دول عمرهم ما اشتغلوا معايا ولا يعرفوا عني حاجة، إزاي تصدق حكمهم عليّ. لكن اقتنع الرجل بكلامهم لأنه كان وقتها بيستشير ممثلات، ويروح يتعشى عندهم فالممثلة هتقول علىّ إيه يعني، ولا واحدة منهم عمرها اشتغلت معايا، ولا حتى شافت أفلامي، يعني هتشوفها فين؟ (يضحك ويضرب كفاً بكف).

(برجاء ملاحظة أن هذا الكلام بالتحديد تم نشره في مجلة (صباح الخير) في عددها الصادر بتاريخ 2 يوليو 1998، وحين التقيت بعدها بعام في حوار آخر تم نشره في مجلة (المصور) بتاريخ 6 أغسطس 1999، كانت هذه التفاصيل قد تغيرت بعد نشر الحوار السابق، وبدأ الاهتمام أكثر بالاحتفاء بالأستاذ توفيق في المحافل السينمائية الرسمية، لكن لم يتغير شيئ في ما يتعلق بعمله كمخرج سينمائي كما سبق أن قلت في البداية).

ـ طيب أستاذ توفيق، قبل ما نروح للكلام عن تجربتك في العراق، عايز أختم الحديث عن فترة السادات، وطبعا مش عايز أستهلك الوقت في نقاش عن آراء سياسية، لكن مهتم إني أسألك بعد حرب أكتوبر هل تغير موقفك من السادات؟
فرحت فرحة ما حصلتش طبعًا، إنما لما وقفنا قتال وعملنا الثغرة، قلت يبقى أكيد في حاجة وتأكدت مخاوفي من السادات.

ـ نرجع للعراق، إزاي تطورت تجربتك هناك من التدريس إلى إنك تشتغل كمخرج سينما بعد طول انقطاع؟
أنا طول الوقت كنت مكتفي بالتدريس، وكنت مستمتع بيه وشايف إني بالعب فيه دور مهم، لحد ما في بداية الثمانينات اتطلب مني إني أعمل فيلم، وكان الفيلم بيدور عن جزء من قصة حياة صدام حسين، الفيلم كان عن قصة اسمها (الأيام الطويلة)، وكان المفروض يكتب السيناريو الكاتب أحمد عباس صالح، وقال لي أحمد عباس صالح إن أنا مطلوب بالاسم لإخراج الفيلم، وكان رد فعلي أول مرة إنه لو الحكاية كده هاخد عيالي وأسافر أرجع مصر. بعدها بفترة ساب أحمد عباس صالح العراق، وجاءني مسئول عراقي كبير جدا، وقال لي مطلوب منك عمل الفيلم، وطلب مني إني أقراه قبل ما أقول قراري، فقلت له طيب سيبني أقراه وأفكر، وبعد ما قريت طلبت إني أجلس مع صدام حسين عشان أعرف منه الحكاية بالتفصيل، وقد كان، وتحمست للفيلم، وأقدر أقول لك إني لست نادم على عمل الفيلم، وأنا أعتقد إن فيه شيئ مهم جداً، يعني هو بطله صدام حسين، لكنه يتجاوز الفكرة دي وبيعبر عن موقف سياسي كنت مصدقه.



ـ كنت؟
كنت ولا زلت مؤمن بالفكر القومي العربي، هم اتهموني إنني رددت فكر آخرين، لكن أنا صاحب فكر قومي عربي ومؤمن بيه، للأسف اللي هاجم الفيلم قبل ما أخلصه هو الناقد سمير فريد، اللي قال إني بِعت نفسي لصدام حسين وخدت منه مليون جنيه، أظن لو كنت خدت مليون جنيه ماكانش ده بقى حالي دلوقتي، علي الأقل كنت خدت شقة كبيرة وعربية نظيفة، أنا ماخدتش حاجة.

ـ ليه؟
(وهو يكتم غضبه) ما طلبتش وما عرضوش عليّ.

ـ يعني خدوا اللي هم عايزينه ببلاش؟
(بغضب) آه.

ـ طيب ليه عملت كده يا أستاذ توفيق؟
(غاضباً) ما اعرفش، ما تسألنيش.

ـ (محاولاً تخفيف حدة الحوار) يعني هل ممكن نقول إن وراء ذلك القرار هو إن خطورة صدام حسين لم تكن قد اتضحت بعد. وأنت تقطّعت بك السُبُل، ورأيت أنه لا ضرر من عمل الفيلم؟
لا، لعلمك أنا ما كنتش عايز أستمر في العراق، أول ما أولادي كبروا قلت أرجع مصر. الحقيقة إن في النهاية مالناش غير البلد دي. (قالها بتأثر وسادت لحظات صمت).

ـ طيب بغض النظر عن اختلافنا في الموقف نفسه، أحب أسألك عن تفاصيل التجربة نفسها، إلى أي مدى تدخل المسئولون العراقيون في السيناريو؟
ولا حد قال لي ثلث الثلاثة كام.

ـ إذن ما ظهر في الفيلم كان باقتناعك الشخصي؟
باقتناعي طبعًا، ولعلمك بعد عرض الفيلم على صدام حسين اعترض على بعض المشاهد. وأنا تجاهلت أغلب اللى هو طلبه، ورفضت تنفيذه، وأعدت المونتاج بطريقة أخرى، وهذا عمل لي مشاكل كثيرة. وكان أكثر مشهد اعترض عليه، مشهد البطل فيه بيتألم لما بيطلعوا رصاصة من جسمه، على أساس إنه المواطن ما ينفعش يشوف إن صدام بيتألم، وقلت له إن ده شعور إنساني طبيعي، يضيف إلى البطل ولا ينتقص منه، ولو كانت رغبة إن المشهد يتشال اتقالت لأي حد في الوقت ده كان يشيلها على طول، لكني رفضت أشيله برغم إن كل اللي حواليا نصحوني بإني أشيله. بالمناسبة في حاجة غريبة حصلت في هذا الفيلم. الشخص اللي أنا اخترته لتمثيل دور صدام حسين في الفيلم ـ يقصد علي كامل المجيد ـ بعد كده صدام حسين أخذه ودخله الجيش وتدرب عسكريا، ودخل الحرس الجمهوري، وبقى من الحماية الشخصية لصدام وبعدها تزوج بنت صدام، وهو اللى هرب الأردن مع أخيه الأكبر حسين كامل المجيد.

ـ (عدت لمشاغبته من جديد) طيب بعد كل هذه التفاصيل، ما كنتش زعلان من المستوى الفني للفيلم؟
(بهدوء) لا، الفيلم فيه حرفية فنية عالية.

ـ طيب بعد كل هذه السنوات التي ظهر فيها ما فعله صدام بشعبه، ألم تحس بالندم؟
على إيه، على الفيلم؟

ـ آه؟
(مستغرباً) ليه.. ما علاقة الفيلم بما حدث في العراق؟

ـ يعني. أنت تعتبر الفيلم مرتبطا بفترة تاريخية معينة قبل وصول صدام حسين إلى السلطة؟ ولا يجب أن يؤخذ بره السياق ده؟
نعم، ده رأيي، طبعا هنا في مصر قالوا إني صنعت الفيلم تمجيدا في صدام. هذا غير صحيح. الفيلم عن شخص كان في مجموعة سياسية ما نجحتش في تنفيذ هدف سياسي معين فهرب هو ليستمر في تنفيذ أهدافه.

ـ طيب بعد هذه التجربة هل حاولت عمل أفلام أخرى في العراق؟
حاولت. لكني بعدها عدلت عن ذلك، وقلت بلاش وجع دماغ. مرة جابوا لي موضوع عشان أعمله ودرسته ولما رحت أشرح وجهة نظري قالوا لا مش هتعمله. أتاري بين اللقاء ده واللي بعده، حصل اجتماع حزبي واتخذوا قرار. كان الموضوع عن ثورة الزنج. وأخذوا القرار بعدم الكلام عن هذه الثورة. والمسئول الذي أعطاني هذا الموضوع في البداية تنكر لقراره.

ـ في اعتقادك، أليس غريبا أن مثقفين مصريين آخرين، يوسف إدريس وصلاح أبو سيف مثلا مجّدوا صدام حسين بصورة فجة ولم يهاجمهم أحد مثلما تمت مهاجمتك؟
يوسف إدريس نصب على صدام حسين كذا مرة، وكان يسافر ويدعى المرض ويطلب فلوس، فيقول له السفارة هتسدد الفلوس فيقول: لأ عايز الفلوس في إيدي فيروح العراق لمدة يومين ويستخبى في اللوكاندة عشان ما حدش يشوفه ولكن بالصدفة كنت أنا أعرف المسئول الكبير اللى بيوصل له الفلوس وشفته بعيني.

ـ طيب، إشمعنى إنت اللى هاجموك بالحدة دي؟
ما اعرفش.

ـ بماذا علق أصدقاؤك على عملك للفيلم مع إنك ما استفدتش من وراه ماديا؟
(يضحك) يوسف شاهين مرة قال لي انت تحب الفقر. وأنا لا أحب الفقر ولا حاجة.

ـ بالتأكيد تألمت عندما أساءت الناس فهم موقفك؟
الأول زعلت. لكن خلاص.

ـ في الوقت ده وخلال إقامتك في العراق، كنت بتتابع التغيرات السياسية التي كانت تحدث في مصر من انفتاح ثم سلام مع إسرائيل ثم تطبيع، هل جعلتك التغيرات دي تشعر إنه لا فائدة على الإطلاق وإنه ما فيش أمل إنك ترجع مصر؟
إلى حد ما، لإنه من ناحية أخرى كان اشتداد وتيرة القرارات دي بيديني إحساس إن نهاية النظام قريبة، ولا يمكن الأمور تستمر بهذا الشكل.

ـ لكن لم يطلب منك أحد أن تشترك في حملة ضد مصر؟ وأنت موجود في عاصمة جبهة الصمود والتصدي، اللي كان نظام السادات بيعتبرها العدو الرئيسي لمصر في ذلك الوقت؟
لا، أنا يمكن المصري الوحيد اللى ما دخلش حزب البعث عندهم. كل مصري من المثقفين الكبار من غير ذكر أسماء اللى كانوا موجودين في العراق دخلوا الحزب وساعات دخلوا الجيش العراقي أيام الحرب مع إيران.

ـ مين مثلا؟
مش عايز أقول أسماء.

ـ طيب عندما جاء صلاح أبو سيف إلى العراق لعمل فيلم (القادسية) اللي النظام العراقي كان متحمس ليه جدا، هل التقيتم؟
آه، التقينا، وفي أحد الأيام حضرت دعوة على العشاء مع رئيس مؤسسة السينما في الفيلا اللي كان صلاح أبو سيف مأجرها في منطقة الحبانية القريبة من موقع التصوير وقعدنا وشربنا، ومدير المؤسسة عبد الأمير المعلا قعد يقول فيّ كلام شعر، وكل شوية يوجه كلامه لصلاح ويقول له إحنا بنثق في توفيق وهو عمل معانا كذا وكذا وكل الكلام اللى انت قلته عليه غير حقيقي، حصل ده قدامي وقدام 4 عراقيين آخرين، فعرفت من خلال الموقف ده حدوث شيئ في السابق عمله صلاح، لكن من غير ما أعرف تفاصيل.

......

نختم غداً بإذن الله.

لقراءة الحلقة السابقة من الحوار:

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.