تمنّع المرأة في أدب العرب

02 اغسطس 2017
+ الخط -
تسـائلُنـي: مَــن أنت؟ وهي عليمةٌ     وهل بفتى مثلي على حاله نُكْر

فقلتُ كما شاءت وشاء لها الهوى      قتيلُك! قالت: أيّهم؟ فهمُ كُثْـــرُ

أيّامَ المدرسة، كثيرًا ما كنتُ أسمعُ حالات اللامبالاة من الفتيات لكثيرٍ من الشباب حديثي الدخول في علاقاتٍ عاطفيّة، وكما في الشعر (غريرون)، أيّ حديثون في التجربة، ليس لهم ماضٍ في ذلك ولا معرفةٌ بنفسيّة المرأة وتقلّباتها وطبيعة تفكيرها. في المقابل، هناك مَن تقلّبوا بينهنّ، وعرفوا أسرارهنّ، فهم في التعامل معهنّ أكثر حذرًا، ولا يرمون القلب إلّا بقصد امتلاكه؛ لا استعطافه.

حين قرأت البيتين، لأبي فراس الحمدانيّ، قلتُ: هذا طبعٌ في المرأة العربيّة أن تتمنّع في لحظات استمالة القلوب، فلا تقبلُ أن تكونَ سريعةَ الإجابة لنداء الحبّ، بل تتلذّذ في كوي قلب محبّها بالصبر وخوف الفقد، متفنّنةً في تأخير الوصل واللقاء، وكأنّها تمشي مع خطوات قلبه على مهَل؛ لتستيقنَ من لوعةِ قلبه، وحضورِ ذهنه معها.

وهذا دأبُ الشعراء في وصف المرأة العربيّة، أن يصفوا تمنّعها، وكثيرةٌ شواهدهم على ذلك، منها: قول امرئ القيس:  

    ويومًا على ظهــر الكثيب تعذّرت     عليّ وآلـت حلفـــــةً لــم تحلّـــــلِ

    أفاطمَ، مهلًا بعـضَ هذا التدلّل     وإن كنتِ قد أزمعتِ صُرمي فأجمِلي

وقول جرير:

                  يـــــا رُبّ غابطنا لو كان يطلبُكم     لاقى مباعدةً منكم وحرمانــا

وممّا وجدتُ عند ابن رشيقٍ في كتابه (العمدة) قولُ أحدهم:

"العادةُ عند العرب أنّ الشّاعرَ هو المتغزِّلُ المتماوت، وعادة العَجَم أن يجعلوا المرأة هي الطّالبةَ والرّاغبةَ والمُخاطِبة، وهنا دليلُ كرمِ النّحيزَةِ (الطّبيعة) في العرب وغِيرتها على الحُرُم".

ولأجلِ هذا أخذوا على عمر بن ربيعة قولَه:

         قالت الكبرى: أتعرفنَ الفتى     قالت الوسطى: أجل، هذا عمر

        قالت الصغرى وقد تيّمتُهـــا     قـد عرفنــــاه وهــل يخفى القمـر

وهؤلاء حديثو الدخول في مذاهبِ القلبِ وأحواله، أكثرُ مَن يتأثّرون لردّاتِ الفعل المعاكسة من محبوبيهم، فترى حالهم تغيّر، ووحدتَهم زادت، واهتمامهم قد قلّ عن سابقه، شاردي الذهن دائمًا، ولقد قال جرير في نونيّته الخالدة:

يا أمّ عثمانَ، إنّ الحبّ عن عرَضٍ     يُصبي الحليمَ ويُبكي العينَ أحيانًا

والمرأة بطبعِها تحبّ سماعَ الغزلِ، ومتى ما جاء هذا الاهتمام ليتحوّل إلى فعلٍ غزليّ، فإنّها تتوقّف فترةً لتستوثقَ من حبّه، بالصدّ تارةً؛ ليُعلَم هل هو حريصٌ على الأوبةِ إليها، أو بالمكاشفةِ تارةً؛ وهذا استوثاقٌ آخر، يُظهرُ عجلةً لا تبينُ في الأولى، ومن علاماتِ الحبّ ما ذكره ابن حزمٍ في طوق الحمامة بقوله:

"وللحبّ علاماتٌ يقفوها الفطِنُ، ويهتدي إليها الذكيّ؛ فأولها إدمان النظر؛ والعينُ باب النفس الشارع، وهي المنقبة عن سرائرها... فترى الناظر لا يطرف، ومنها الإقبال بالحديث، فما يكاد يقبل على سوى محبوبه ولو تعمّد غير ذلك، وإن التكلّف ليستبين لمَن يرمقه فيه، والإنصات لحديثه إذا حدّث، ومنها الإسراع بالسير نحو المكان الّذي يكون فيه، والتعمّد للقعود بقربه والدنوّ منه، وهذه العلامات تكون قبل استعار نار الحبّ وتأجّج حريقه وتوقّد شعله... فإذا تمكّن وأخذ مأخذه، فحينئذٍ ترى الحديث سِرارًا، والإعراض عن كلّ ما حضر إلّا عن المحبوب جهارًا، ومن علاماته وشواهده الظاهرة لكلّ ذي بصر: الانبساط الكثير الزائد، والتضايق في المكان الواسع، وكثرة الغمز الخفيّ، والميل بالاتكاء، والتعمّد لمسّ اليدِ عند المحادثة، ولمس ما أمكن من الأعضاء الظاهرة، وشرب فضلةِ ما أبقى المحبوب في الإناء".

وتجاوز كثيرٌ من الشعراء حالةَ التمنّع إلى الوصف بالحياءِ، منهم الشاعر الجاهليّ (الشنفرى) في قصيدةٍ تائيّة، يقول:

لقد أعجبتْني لا سقوطًا قِناعُها     إذا مــــــا مشتْ، ولا بذات تلفُّتِ

ما كتبتُه من نتائجَ كان خلاصة قراءاتي في شعر العربِ، فإن ظهرَ غير ذلك، فأنا تابعٌ له، مذعنٌ له، ولقد كتبتُ هذا المقال وأنا أقرأ قصيدة أبي فراس الحمدانيّ، وحوارَه مع ابنة عمّه، حينَ غلبتْه في انتصارها لتمنّعها؛ -بل وغرورها- وتهميشه. أما هو فانتصر لنفسِه من خلال مناقبه وإخلاصه للحبّ، ومن خلال شجاعته في الحربِ.

CB9A167C-30E0-4768-A863-6D22CBA5AEE8
عبد الله بني مفلح

كاتب من فلسطين. طالب لغة عربية في جامعة بيرزيت. يقول: "ما زال الأدب العربي بحاجة لجهود جبارة تظهر مكامنه وبهاءه".