09 سبتمبر 2019
تلميذ محطم
ها هو ذا.. قامة كباقي القامات، وظهر محمَّل كباقي الظهور، وعينان كسائر العيون المتوجسة لرهبة المفاجأة... في طرفة عين صار ذا لقب جديد، صار "التلميذ"، لقب منضاف يزاحم ألقابه السالفة: "سرَّاح"، "غبيّ"، "حمار"، "كلب"،"...".
يدق الجرس ويخفق قلبه الواهي، فيتلفت كسائر المتلفتين، ولأول مرة سيطرق هذا الرنين المزعج سمعه المعتاد على ثغاء وشدو الطير في حقول مفتوحة بلا حدود.
شاخصاً ينتابه الخوف مثل الخائفين ينتظرون الولوج لغرفة تبدو شاسعة تَــسَع الخمسين والستين، وحين سيلج معهم سيبدو مثلهم في كل المواصفات، وحيداً تطير به الذاكرة إلى ليلة أمس: أم مشتومة موبَّخة ملْكومة لمجرد طلبها سكراً.. أخ يبكي لأنه أظهر الحزن حين فتح الباب على الساعة الثانية ليلاً أمام أب كافأه بلكمات تركت رضوضاً على خده وجبهته تخلد ألم الذكرى... وأخت... آه لمنظرها حين صفعت على وجهها الوردي البريء.. كانت الدمعات المنسابة فريدة التدحرج على خديها...كم تمنى الهرع لمواساتها لولا خوفه من عقاب أشد.
في عز أيام الربيع والخريف، وكل الفصول، عاش مآتم سرية لا خير في ذكرها ولا تذكرها... حزن على حزن، وأب يصنف أسرته في آخر الدرجات، وأم تحب سعادة الكل بلا حول ولا قوة، فكانت أكثرهم هزالاً وشحوباً.
أمه وأمهم بفطرتها السليمة تحب لهم الحياة، أما أبوه فيكره لهم البقاء الأمين، وفطرته السقيمة تهيئ له أفانين التنغيص المَقيت. كم تساءل: أين تربى أبي؟ وهل جدي كان مثله قبل أن يخلد إلى سبحته ويصير وجهه وضيئاً يشيع السكينة في نفوس رائيه مثله؟
في الفصل، أمام لوح عريض طويل غطى وجه الجدار الأبيض، يتراءى لي رجل بشاربين متوحشين وفم مزبد بكثرة السباب والتوبيخ، فيصير"التلميذ" مرة أخرى يعيش آهات البيت... التلاميذ يتحركون، يتلذذون بالإجابات والتعليقات، يضيفون إلى حصيلتهم الجديد فيزدهر الأمل في أعماقهم، أما هو فتمر الأسابيع وهو صنم ليس بوسعه تغيير لا الجلسة ولا القميص ولا الفكرة.
في كل مساء، أو ظهيرة، يعود إلى منزل أبيه مثقل الظهر بكتب مجهولة المضامين، ومثقل النفس بفاحش الكلام وسوء التقدير.
في الليل، ينام مكدوداً بعد لقيمات بلا طعم، أو بعد لكمات أو صفعات، فيدلف مباشرة إلى عالم الكوابيس المتفننة في الانتقام بلا مبررات، حتى إذا أسفر الصباح صار ـ مكرها ـ في صف الذين ينطلقون إلى مدارسهم بقلوب ينمو فيها الأمل كأزاهير الجنان.
كم تساءل مراراً والحنق يكاد يشنقنه إن كان فعلاً تلميذاً أم صورة مُمَوّهة للمدرس والمدير وبقية الأتراب.
تبدأ الحصة كالعادة، يسترعي الانتباه تسمُّره في مقعده بلا حركات ولا إجابات، تؤَوّل وضعيته، يُساء الظن به، يصفعه المدرس على خديه الضامرين، فيصير أمامه أباه الثاني. يصير بين جحيمين، ولم يبق له سوى المسافة بينهما، مسافة يقطعها مفكراً في صنيعه بين نارين.
ما أقسى أن تصير جسداً تعذبه الذاكرة وتزيده الظروف الجديدة عذاباً بدل أن تواسيه.
ـ "هل سأنجح ؟". تساءل ذات صباح... فكر هنيهة وتنهد، ثم قال مجيباً عن تساؤله: "ومن سيسقط بدلي؟... مستحيل.
شاخصاً ينتابه الخوف مثل الخائفين ينتظرون الولوج لغرفة تبدو شاسعة تَــسَع الخمسين والستين، وحين سيلج معهم سيبدو مثلهم في كل المواصفات، وحيداً تطير به الذاكرة إلى ليلة أمس: أم مشتومة موبَّخة ملْكومة لمجرد طلبها سكراً.. أخ يبكي لأنه أظهر الحزن حين فتح الباب على الساعة الثانية ليلاً أمام أب كافأه بلكمات تركت رضوضاً على خده وجبهته تخلد ألم الذكرى... وأخت... آه لمنظرها حين صفعت على وجهها الوردي البريء.. كانت الدمعات المنسابة فريدة التدحرج على خديها...كم تمنى الهرع لمواساتها لولا خوفه من عقاب أشد.
في عز أيام الربيع والخريف، وكل الفصول، عاش مآتم سرية لا خير في ذكرها ولا تذكرها... حزن على حزن، وأب يصنف أسرته في آخر الدرجات، وأم تحب سعادة الكل بلا حول ولا قوة، فكانت أكثرهم هزالاً وشحوباً.
أمه وأمهم بفطرتها السليمة تحب لهم الحياة، أما أبوه فيكره لهم البقاء الأمين، وفطرته السقيمة تهيئ له أفانين التنغيص المَقيت. كم تساءل: أين تربى أبي؟ وهل جدي كان مثله قبل أن يخلد إلى سبحته ويصير وجهه وضيئاً يشيع السكينة في نفوس رائيه مثله؟
في الفصل، أمام لوح عريض طويل غطى وجه الجدار الأبيض، يتراءى لي رجل بشاربين متوحشين وفم مزبد بكثرة السباب والتوبيخ، فيصير"التلميذ" مرة أخرى يعيش آهات البيت... التلاميذ يتحركون، يتلذذون بالإجابات والتعليقات، يضيفون إلى حصيلتهم الجديد فيزدهر الأمل في أعماقهم، أما هو فتمر الأسابيع وهو صنم ليس بوسعه تغيير لا الجلسة ولا القميص ولا الفكرة.
في كل مساء، أو ظهيرة، يعود إلى منزل أبيه مثقل الظهر بكتب مجهولة المضامين، ومثقل النفس بفاحش الكلام وسوء التقدير.
في الليل، ينام مكدوداً بعد لقيمات بلا طعم، أو بعد لكمات أو صفعات، فيدلف مباشرة إلى عالم الكوابيس المتفننة في الانتقام بلا مبررات، حتى إذا أسفر الصباح صار ـ مكرها ـ في صف الذين ينطلقون إلى مدارسهم بقلوب ينمو فيها الأمل كأزاهير الجنان.
كم تساءل مراراً والحنق يكاد يشنقنه إن كان فعلاً تلميذاً أم صورة مُمَوّهة للمدرس والمدير وبقية الأتراب.
تبدأ الحصة كالعادة، يسترعي الانتباه تسمُّره في مقعده بلا حركات ولا إجابات، تؤَوّل وضعيته، يُساء الظن به، يصفعه المدرس على خديه الضامرين، فيصير أمامه أباه الثاني. يصير بين جحيمين، ولم يبق له سوى المسافة بينهما، مسافة يقطعها مفكراً في صنيعه بين نارين.
ما أقسى أن تصير جسداً تعذبه الذاكرة وتزيده الظروف الجديدة عذاباً بدل أن تواسيه.
ـ "هل سأنجح ؟". تساءل ذات صباح... فكر هنيهة وتنهد، ثم قال مجيباً عن تساؤله: "ومن سيسقط بدلي؟... مستحيل.
لحسن ملواني
كاتب مغربي. يعبّر عن نفسه بالقول "الإبداع حياة".
لحسن ملواني