تلك المرأة في شارع كولِج

13 فبراير 2015
كريشانو داس / الهند
+ الخط -

أكاد لا ألاحظها في بداية الأمر، إذ تصعب رؤية وجهها لأنني لا أنظر من زاوية مناسبة. أراها ترتدي سارياً أصفر يمنح شعوراً بالخفّة. شعرها قصير، متناسب مع دقة وجهها الشاحب، فيضفي عليها قليلاً من الحيويّة، رغمَ بطءٍ ألاحظه في حركاتها. لا شكّ أنّ أيّ امرأة يرشح عنها هذا القدر من التباين ستلفت الانتباه حتماً. تتكئ على طاولة من خشب إذ تنظرُ إلى الكتب التي تختارها كي تشتريها. قد تكون وِقفتها في ذلك المكان مشابهة لوقفتها في أي غرفة أخرى تعتاد البقاء فيها، إذ يبدو أنّها تتمتع بقدرٍ من عدم الاكتراث الطبيعيّ بالأماكن العامّة. إنّها في شارع كولِج.

هناك دكان كتبٍ في هذا الشارع يوحي بأنه حديقة غنّاء، جنّة من كتب، وهي كأنّها وحدها الجديرة بزيارته، إذ أراها لا تأبه بالناس من حولها، تختار ما تشاء وتترك. أسأل بائع الكتاب إن كانت لديه دواوين شعراء أبحث عنهم، وهم باسكار شاكرابورتي، ونابارون باتاشاريا، وأوبتال كومار باسو. يكتب البائع الأسماء على عجل قائلاً لي أثناء كتابته منبّهاً: "سأرى وأبحث عن هذه الأسماء، مع أنّي أستبعد أن تجد شيئاً لباسكار وأوبتال". سألته عن السبب، إذ كنت أظنّ أنّ هذه الأسماء أكثر شهرة من غيرها. فأخبرني بنبرة العارفين: "الناس لا يقرؤون الشعر، ولذا فإنّ الطلب على هذه الكتب قليل، ويصعب العثور عليها عادة". ما أكثر الشعراء في كالكوتا، وما أقل القارئين.

أمّا المرأة المستندة على الطاولة فلا تعير أيّ اهتمام لأسماء الشعراء الذين ذكرتهم. هناك جزء من شَعرها بدأ يشيب، من الحياة ربما، أو من حياة القراءة. لديّ فضول بشأن عدم اكتراثها بأسماء هؤلاء الشعراء. اختلست نظرة إلى عناوين الكتب لعلّي أفهم السبب، وعددت اثني عشر كتاباً، إمّا لطاغور أو عنه. فوجدت الإجابة عن سؤالي. طاغور يرتبط بزواج لا تعدّد فيه، وبحب الطفولة أو أحلامها عن الزواج، ولذا فإنّه المرشّح الأقوى بين الأموات ليخطب ودّ بعض النساء البنغاليات اللواتي يفضّلن العيش في الماضي. طاغور معبدٌ لا يتّسع سوى لإله واحد، فلا مكان لآلهة آخرى أصغر عند المذبح. قد يكون كلّ من باسكار، ونابارون، وأوتبال نجوماً ساطعة في الآفاق، بيدَ أنّه لا سبيل لهم لدخول معبد الإله الأوحد.

تأخذ المرأة الكتب التي اختارتها واحداً تلو الآخر، متوقفةً لوهلة عند كلّ منها، تستلمها كأنها تستلم حجراً مقدساً، وتعيدها على الطاولة الخشبية. ثم تطلب من البائع أن يحسب لها سعرها، فيأتيها الجواب مباشرة: "ألف وسبعمئة وتسعون". يدبّ الشحوب في وجه المرأة وتعلوها ملامح التوتّر فجأة، فتشرع بالحديث بلهجة رقيقة رغم سرعتها، مدمدمة لنفسها وللبائع في آن معًا: "هذه نهايتي. لقد انتهى أمري. لا يمكنني دفع ثمنها. ماذا أفعل الآن؟ إنني أهلك نفسي، وأنت تهلكني أيضاً. هذه نهايتي. لقد انتهى أمري. ماذا أفعل الآن؟ لقد أهلكتني". أسمعُها، بلا حِراك ولا كلام، كأنني مجرّد شبح مشدوهٍ يسترق السّمع في هذا المشهد. كأنّني والشعراء الذين أبحث عنهم سواء، فأنا لست موجوداً، مثلهم تماماً. يتبسّم البائع، أما المرأة فتذهب في حالة من ذهول، وإن كنت أظنّها محاولة مؤلمة للخداع.

أذكر كذلك. امرأة بنغالية تشتري الخضروات في دلهي. هي الأخرى كانت تعاني من حالة نفور مزمن من دفع تكاليف ما ترغب في شرائه. "بكم كيلو الطماطم؟"، فيردّ عليها البائع: "الكيلو بأربعين روبية"، فإذا بها تعيد الطماطم من الكيس بعصبيّة وتقول: "احمرار حباتها لا يتناسب مع السعر". ثم تسأله ثانية عن سعر القرنبيط، فيخبرها بأن الكيلو بأربعين روبية. فتقول له دون رهبة: "احتفظ به لنفسك إذاً"، ثم تولّي منصرفة. لا أدري إن كانت ستتصرف بالطريقة نفسها في دكان أثواب الساري، فقيمة الأشياء تتحدّد بالأماكن التي تباع فيها.

وعَوداً على المرأة في شارع كولِج، فإن السعر الذي اقترحته للكتاب غير منصف رغم ما يبدو عليها من ذوق أدبيّ رفيع، ولعلها لا تدرك أنّ ما تفعله من مساومة على السعر ينزل بهذه الكتبَ إلى صنف البضائع العاديّة. وفي تلك اللحظة تحديداً، في تلك اللحظة من هذه الصفقة التي تتحول فيها الكتب إلى بضاعة كغيرها مما يباع ويشترى، لا أكثر ولا أقلّ، تصبح الحكمة رازحة تحت رحمة صفقة بغيضة.

هنالك ذكرى لا أفتأ أذكرها من طفولتي عن كتب كانت رخيصة كتلك الكتب التي تباع من روسيا. الذكريات أصل كل الفظائع. تتمالك المرأة نفسها، دون مساعدة من البائع، وهو نفسه كان ينظر عاجزاً إليها تماماً كما هي إلى كتبه. ثم تقول: "إنني مضطرة لإعادة بعضها، لا أستطيع شراءها كلها، سأترك بعض الكتب". ثم تبدأ مرة أخرى بالتقاط الكتب واحداً تلو الآخر، تلمسها بلطف وعناية، ولكن بشكل يبدو مضاعفاً عما سبق، بهدوء وبشيء من ألم.

لا أجد مثيلاً لهذه اللمسة سوى في الأفلام بين عاشقين في لحظة نشوة. اثنا عشر كتاباً هي اثنا عشر رأساً، أو اثنا عشر رأساً لجسد واحد. تعيد المرأة النظر في الكتب للمرة الثالثة، ليست تدري ماذا تأخذ وماذا تدع. تعود مرة أخرى تدمدم لنفسها وللبائع: "كلّ هذه الكتب لي، لا أدري ماذا أفعل". ثم يخبو صوتها، وتلقي نظرة هائمة لا قرار لها. اثنا عشر كتاباً هي اثنا عشر فصلًا من حياتها، لا يمكن لها أن تستغني عن أي فصل كان. يومئ البائع برأسه مفترّاً عن ابتسامة ويقول: "كنت أعرف، كنت أعرف أنك لن تقدري على ترك أيٍّ منها". ثم تقوم المرأة بدفع الكتب باتجاه البائع مؤذنة باستسلام موجع قائلة له: "افعل ما تشاء". رشح عن هذه الحركة شيء من طيش ممزوج باعتراف زائف بالهزيمة.

وحين همّ البائع بتغليف الكتب بادرت المرأة وتقدمت بآخر محاولة يائسة للحصول على أي خصم وقالت: "ألا يمكنك على الأقل أن تحسم التسعين روبية من السعر؟"، ولكن الرجل رغم ابتسامته اللطيفة ظل حازماً وقال لها: "لقد أعطيتك سعراً نهائياً، صدقيني، لا يمكن أن أعطيك سعراً أفضل من هذا".

أخذت تعدّ النقود وناولته إياها بيدين هامدتين، تنظر إليها نظر المغشيّ عليه. يتأكّد البائع بسرعة من النقود وينادي على رجل كبير يقف على مقربة منه بالكاد أنهى شايه وقال له: "يا عم، لن أجد أفضل منك للقيام بهذه المهمّة. هذه السيّدة متعبة قليلاً، ومعها حمل ثقيل من الكتب. أرجو منك أن تساعدها وتوقف لها سيارة أجرة كي أتابع عملي هنا". يحمل الرجل الكبير كيس الكتب ويتحرك ليرافق المرأة، وقد سمعت البائع يقول لها متلطفاً عند خروجها: "ننتظرك مجدداً".

خرجت تلك المرأة بعينين حالمتين غائرتين في الأفق مع غروب الشمس يلفّها حزنٌ شديد. لعلّ ما يدور في صدرها اللحظةَ أثقل عليها من الكتب التي تحملها. بل إنّها لم تجب البائع على عبارتَه الأخيرة. وهكذا تحوّل ذلك الإحساس بالخفّة الذي استشعرتُه حيالها إلى انطباع بخفّة من نوع آخر لا يمكن احتمالها، وتشكّلت هالةٌ ثقيلة من حولها. وبينما أنا ساهمٌ أراقبها تغادر، وأفكر من أيّ حياة أتت وإلى أي حياة تعود، جاءني صوت بائع الكتب فانتبهت إليه يقول: "لقد وجدنا الشعراء الثلاثة الذين تبحث عنهم". وكان سمعي في انتظار هذه البشرى! خيّل إليّ أن هؤلاء الشعراء قد خرجوا من مخابئهم وصاروا بين يديّ، واشتريت الكتبَ فوراً دونَ تردّد.



* Manash Bhattacharjee، شاعر وباحث في العلوم السياسية من نيودلهي، صدر له "قبر غالب وقصائد أخرى".

** الترجمة عن الإنجليزية: محمد زيدان

المساهمون