تلبيس على صورة تونس

25 ديسمبر 2018
+ الخط -
حقّقت ثورة تونس تحوّلات سياسية فارقة، وتعديلات دستورية جوهرية، وراكمت مكاسب حقوقية مهمّة على مدى ثماني سنوات من رحيل الدكتاتور المخلوع زين العابدين بن علي. وتجلّى ذلك في الانتقال من الدولة الأحاديّة إلى الدولة التعدّدية، وتأمين التداول السلمي على السلطة، والاحتكام إلى صناديق الاقتراع في إدارة تمرين التنافس على الحكم، وبلورة دستور تقدّمي، أقرّ حقوق النساء والتوازن بين السلطات الثلاث، التنفيذية والقضائية والتشريعية، وضمن الحرّيات العامّة والخاصّة. ونتيجة ذلك، احتلّت تونس مراتب متقدّمة في مصاف الدول الديمقراطيّة، بحسب تقارير موثوقة صادرة عن مراصد بحثيّة ومراكز حقوقية دوليّة مرموقة. لكن الإشكال متمثّل في أنّ هذه الديمقراطية الوليدة تواجه كمّا هائلا من موجات التشويه والتشويش عليها في الداخل والخارج. والمراد في الغالب شيطنة حدث الثورة التونسية، في حدّ ذاته، والتهوين من قيمة مخرجاته الحقوقية والسياسية. وتكفي الإشارة هنا إلى وسائل إعلام تونسية وعربية، مسكونة بهاجس الشد إلى الخلف، وميّالة إلى دعم فلول النظام السابق ومعسكر الثورة المضادّة، ما فتئت تروّج مغالطاتٍ، منها القول إنّ الثورة بذرة خبيثة زرعتها تونس، وصدّرتها إلى بلدان عربية، والزعم إنّ تونس الجديدة صدّرت ما يزيد عن سبعة آلاف جهادي إلى بؤر التوتر، والقول إنّ الديمقراطية التونسية أنتجت الفتنة والاستقطاب، وأدّت إلى تقسيم المجتمع.

والواقع أنّ التحليل الموضوعي لمستجدّات المشهد التونسي يُثبت تهافت هذه المغالطات، فلا شكّ أنّ تونس أبدعت الحدث الثوري، ومثلت نقطة تحوّل في التاريخ السياسي للعرب، بما أنّها شهدت ثورة شعبية سلميّة، أدّت إلى إطاحة أحد عُتاة الدكتاتورية في الوطن العربي، وأدّت إلى تبنّي النظام السياسي الديمقراطي في إدارة شؤون البلاد، لكنّ تونس لم تَدْعُ العرب إلى الثورة على حكّامهم، ولم توظف لا جيشها، ولا إعلامها، ولا قنواتها الدبلوماسية لتصدير الثورة أو لإقناع العرب بالديمقراطية، بل إنّ أصحاب القرار في تونس أخبروا مرارا أنّ الثورة التونسية مُنتَج محلّي، لا يتغيّا التمدّد ولا التصدير. ويُذكر في هذا السياق أنّ الرّئيس التونسي، الباجي قايد السبسي، تحدّث أكثر من مرّة عن ربيع تونسي، لا عن ربيع عربي. وللتاريخ، فإنّ ما حصل عمليّا بعد 2011 أنّ شعوبا عربية مقهورة، عانت ويلات القمع والكبت، والظلم والمحسوبية عقودا، تولّد عندها وعي تاريخي بخطورة الاستبداد، وأدركت أنّ الحقوق في الدولة الشمولية تُفتكّ ولا توهَب. لذلك ثارت الجماهير العربية في القاهرة، وطرابلس، ودمشق، وصنعاء على الأنظمة السلطوية شوقا إلى مزيد من الحرّية والعدالة والكرامة، وتوقا إلى تأسيس دولةٍ مدنيةٍ تعدّديةٍ عادلة. ولم تفعل ذلك بتحريضٍ من تونس، بل لأنّ تلك الأقطار كانت تحمل داخلها قابلية للثورة، وكذا لأنّ السياسات الاستبدادية الجائرة غذّت أسباب الاحتقان، والإحساس بالإحباط، وأغرت النّاس بالاجتجاج.
وفي سياق التلبيس على المنجز الديمقراطي في تونس، يروّج إعلاميون وملاحظون يفتقرون إلى الدقة والموضوعية مغالطة مفادها بأنّ تونس الجديدة صدّرت إلى بؤر التوتّر ما يزيد عن سبعة آلاف مقاتل. والواقع أنّ هذا الرقم مبالغ فيه، ذلك أنّ تقارير نشرتها جهات موثوقة تفيد بأنّ العدد أقلّ من ذلك بكثير، فقد جاء في وثيقة "تقارير قُطرية عن الإرهاب" الصادر عن الإدارة الأميركية سنة 2015 أنّ عدد التونسيين الذين التحقوا بالجماعات المسلّحة في الخارج لم يتجاوز ثلاثة آلاف، وإحصائيات وزارة الداخلية التونسية تؤيّد ذلك. كما ذكرت دراسة أصدرها معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى أخيرا أنّ عدد الجهاديين التونسيين في مناطق النزاع يقدّر بـ 2900. ومن ثمّة فتضخيم هذا الرّقم ومضاعفته يبدو فعلا غير بريء، يروم تشويه صورة تونس لدى الرأي العام الدولي، والقول إنّ الديمقراطية أنتجت إرهابيين. والحقيقة عكس ذلك، لأنّ أغلب المتشدّدين عاشوا جلّ حياتهم زمن الاستبداد، وتكوّنت لديهم لبنات حقد على الدولة الوطنية زمن الحكم السلطوي، ولم يجدوا لهم بعد الثورة حاضنة اجتماعية واسعة في الدّاخل التونسي، لأنّ البيئة المدنية التونسية طاردة للتطرّف، فاتجهوا نحو حواضر ليبية وعراقية وسورية بحثا لهم عن حاضنة أهلية ومراكز نفوذ، واستغلّوا الوضع الهشّ، وغيبة الدولة في تلك المناطق، ليتمدّدوا ويحقّقوا هيمنتهم إلى حدّ ما. ومن المبالغ فيه تحميل الديمقراطية التونسية المسؤولية في هذا الخصوص.

ومن المفارقات أنّ أشقّاء عرب يتصدّرون المنابر الإعلامية للخوض في الشأن التونسي، ومنهم مَن لم يزُر تونس أصلا، يذهبون إلى أنّ الثورة مؤامرة، ويعتبرون حالة الاختلاف المشهودة في البلاد فتنة، ويرون التنازع على الصلاحيات بين السلط الثلاث مؤذنا بتفكّك الدولة، ويعتقدون أنّ الاحتجاج مؤدّ إلى تهديد السلم الأهلي، ويظنّون أنّ تباين التونسيين حول مسائل خلافية مثل هويّة الدّولة، وحقوق المرأة، وطبيعة النظام السياسي دالّ على أنّ الديمقراطية أدّت إلى تقسيم المجتمع، وتغذية الاستقطاب داخل الاجتماع التونسي. ويغيب عن هؤلاء أنّ الثورة التونسية كانت فعلا إراديا، احتجاجيّا، شعبيّا عارما شارك فيه تونسيون، ينتمون إلى محاضن أيديولوجية وجهوية وطبقية مختلفة، ولم يأتوا من الخارج. أمّا التنافس على المناصب والصلاحيات، والتباين في الآراء، فحالة طبيعية في الاجتماع الديمقراطي الذي يضمن التنوّع، ويُشرّع الاحتجاج، والتنافس السلمي على السلطة، ويؤسّس ثقافة الاختلاف في كنف احترام الدستور والالتزام بالقانون. ومن ثمّة، حالة الاختلاف المشهودة في تونس بعد الثورة من سمات الديمقراطية، وهي دالّة على حيوية المجتمع المدني التونسي، وعلى تزايد وتيرة مشاركة المواطن في قضايا الشأن العام.
يمكن القول، ختاما، إنّ خطاب التشويش على التجربة الديمقراطية التونسية النّاشئة يصدر عن وعيٍ حينا، وعن قلّة وعي حينا آخر بمستجدّات الواقع السياسي والاجتماع المدني في تونس. كما يُفسّر ذلك بأنّ عددا معتبرا من العرب ما زالوا ينظرون إلى الديمقراطيّة بعين الرّيبة، خصوصا مع تصاعد الدكتاتوريات العربية، واستماتتها في الدفاع عن حصونها. وفي ظلّ ضعف الأداء الاتصالي/ الدّعائي لأصحاب القرار، وقادة الجمعيات والأحزاب، والتمثيليات الديبلوماسية التونسية، وتقصيرهم في تقديم صورة تونس الديمقراطية الواعدة إلى العالَم، يُفترض أن تضطلع النخب التونسية خصوصا، والنخب التنويرية العربية النزيهة عموما، بدورها في كشف الحقيقة، وبيان أهمّية مكاسب الانتقال الديمقراطي في تونس، على الأقلّ من الناحيتين السياسية والحقوقية، حتّى يتبيّن للنّاس الخيط الأبيض من الخيط الأسود في هذا المضمار.
511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.