صباح الثامن عشر من الشهر الجاري، خرجت المعلمة الفلسطينية فاطمة سليمان من منزل عائلتها في خربة الدير ببلدة تقوع، جنوب شرق بيت لحم، جنوب الضفة، المحاذي لمقطع سيرٍ سريع في شارع القدس في الخليل، كما اعتادت كل صباح عند السابعة إلا ربعاً للذهاب إلى عملها في مدرسة الرشايدة جنوب شرق بيت لحم، لكنها كانت على موعد مع القدر، وأصبحت شهيدة بعدما دهسها مستوطن بشاحنته ولاذ بالفرار.
اختلفت بعض المواقع الإخبارية في وصف ما تعرضت له المعلمة فاطمة، بعضها قال إنه حادث غير مقصود من قِبل مستوطن، وبعضها الآخر رأى أنها جريمة قتل كان بالإمكان استبعادها لولا إصرار السائق الإسرائيلي على استكمال فعلته. وكما اعتادت بلدة تقوع بوصفها إحدى المناطق الملتهبة في الضفة الغربية، قدمت مرة أخرى ضحية جديدة ليس في مواجهات مع الاحتلال، ولا الحبس في قفص اتهام بمحاولة طعنٍ أو دهس، بل بعملية دهس من قبل مستوطن.
زار "العربي الجديد" منزل العائلة المتشحة بالسواد في خربة الدير وحاور أقارب الشهيدة. واستعادت والدتها المكلومة فضة عيسى، بعدما ابتلعت غصتها، وذرفت دمعها، تفاصيل الوجع والفقد، مشيرة إلى أنها سمعت أصوات السيارات في الشارع لكنها لم تعلم أن الحادث أصاب ابنتها.
وقالت الأم: "الصبح عملتلها كاسة حليب وشربت، وكذلك قطعت أزرار جلبابها وخيطت إلها اياه وطلعت من الدار، كل يوم بشرب معها كاسة الحليب، اليوم ما شربت، سمعت زعقة السيارة، وصرت أدعي للشوفيرية أنو الله يحميهم، مكنتش مفكرة إنها بنتي فاطمة، أتاريها (تبين أنها) طالعة من الكراج تستنى بنت أخوها ومرت (زوجة) أخوها الثاني، تعرضت سيارتها لضربة، أجت بدها تنزل من السيارة تشوف منين أصيبت السيارة، فدهسها المستوطن، الله يرحمها، الله يرضى عليها، أودعتها لرب العالمين".
وأضافت "كانت مالية حياتي، فاطمة إلي بتخش وتطلع عليا زي الرجال بتسوي كل شي". وذكرت الحاجة فضة أن إحدى ساكنات منطقة مدرستها جاءت إلى بيت العزاء وقالت إن طلاب فاطمة شقوا أنفسهم حزناً عليها".
استأذنا الحاجة فضة في الدخول إلى غرفة فاطمة فأذنت، دخلنا فوجدنا على الجدار شهادة تكريم لها من المدرسة، وملابس معلقة لن ترتديها بعد اليوم، وسريراً بدا بارداً.
وبكت كفاح، ابنة أخ الشهيدة، التي فتحت لنا باب الغرفة وأتاحت لنا التقاط الصور، بعدما اتضح من إحدى حقائبها بأنها كانت تعمل بعد المدرسة في مختبر في جمعية طبية في بلدتها تقوع.
وأشارت كفاح: "كانت عمتي تحب الخير للناس، استيقظنا على فاجعة، لكن لم يكن بالمقدور تقديم الإسعاف لها لأنها فارقت الحياة. لدينا مشكلة بالمجمل بأن هذا الشارع خطير وتسير عليه مركبات الشحن الثقيلة. عمتي تعرضت لضربتين من قبل شاحنة المستوطن، الثانية أدت لاستشهادها".
وذكر شهود العيان أن "فاطمة كانت تحاول إخراج سيارتها من الكراج المحاذي للشارع، لكن سائق الشاحنة اصطدم بها ولم يتوقف، وعندما نزلت من السيارة، إما لترى ما الذي حدث أو من شدة الضربة، داسها السائق الإسرائيلي بشاحنته فانكسرت جمجمتها واستشهدت على الفور".
سألنا العائلة عن أول من علم بالحادثة منكم؟ فقالت سلام، ابنة أخيها، وعمرها 15 عاماً، وهي معتادة على الخروج مع عمتها الشهيدة يومياً في سيارتها لإيصالها لمدرستها في تقوع، قبل التوجه لعملها في مدرسة الرشايدة للبنات: "أول اشي خلصت أكلي وبدي أطلع مع عمتي فاطمة لتوصلني المدرسة فطّلعت السيارة من الكراج وأنا شفتها في لحظتها، بعدين رحت على إمي وخبرتها أنو راح أروح، لأن عمتي رح تزمرلي بالسيارة، لكني ما سمعت الزمور زي كل مرة".
وتابعت: "عمتي فقدت السيطرة على السيارة، وحاولت أن تقفز من الشباك لأن الباب لم يفتح معها والسيارة لم تتوقف، وواصلت دحرجتها إلى الشارع، قبلها بثوان انخلع الباب المجاور لكرسيها عند اصطدام السيارة بسور المنزل بجانب الشارع، في حينها جاءت الشاحنة مسرعة وصدمت مؤخرة سيارة عمتي، ووقعت عمتي من شدة الضربة ودهسها السائق بعجلات شاحنته ولم يتوقف بعد الضربة الأولى، وسحق رأسها، وبعدها توقف وذهب إلى جيش الاحتلال الذي كان حاضرا في المكان كالمعتاد". لكن الصبايا المحيطات بسلام قلن حينها: "جيش الاحتلال لا يسمح بعمل مطبات في الطريق لكبح سرعة الشاحنات بالعموم".
وحين سلنأها: هل رأيتِ يا سلام لحظة استشهاد عمتك؟ أجابت: "نعم كنت أقف أمام المنزل مصدومة، رميت بحقيبتي المدرسية، وصرخت ووصلت للشارع، فخرجت جدتي وأمي، ثم أمسكتني أمي".
وقالت والدة سلام (أم إياد): "نعم أمسكتها لأنها كانت في حالة انهيار عصبي ولم أعرف أمسك بابنتي أو جدتها، ثم جاء زوجي سليم (شقيق الشهيدة) وقد شعر بالصدمة وأبعد أمه عن أخته ووضع عليها غطاءً، قمت بتفزيع (طلب العون) الكل فجاؤوا".
"العربي الجديد" قصد الأخ سليم في بيت عزاء الرجال في المسجد المجاور، لم يكن بمقدوره الحديث، سألناه عمّا رصدته كاميرات المراقبة في المحل الذي يملكه بمحاذاة المنزل وهو عبارة عن محطة محروقات ومغسلة للسيارات، فأجاب: "جنود الاحتلال اقتحموا منزل العائلة، وصادروا تسجيلات الكاميرات الخاصة به أيضاً".
لكن ثمة فيديو رصد الحادثة وانتشر على مواقع التواصل الاجتماعي، وأشار بعضهم إلى أن "الارتباط الفلسطيني اطلع عليه وربما انتشر عن طريقه". وقابلنا أحد السائقين الذي شهد الواقعة رافضاً التعريف باسمه، إذ قال: "رأيت الحادثة، جاء المستوطن الذي يقود الشاحنة مسرعاً ولم يتوقف، صدم مؤخرة المركبة في البداية، ثم عاد للخلف بحركة سريعة ودهس الشهيدة، عندما جاء أخوها سليم لطم على رأسه من هول المنظر ثم غطاها". ثم سألناه هل كان بإمكان المستوطن التوقف قبل استشهاد فاطمة، أي قبل الضربة الثانية وهي القاضية؟ فأجاب "نعم، لكنه لم يفعل".
وقالت صديقة الشهيدة، لواحظ شمارخة، من مخيم الدهيشة القريب من بيت لحم، وهي تتأوه: "شو بدي أحكيلك عنها"، ثم شرعت بالبكاء، وأكملت: "رح أفتقد كل شي مع ذهاب فاطمة، إحنا عمرنا ما افترقنا، هي صديقة الطفولة والمدرسة والجامعة هسا افترقنا".
لم يكن حال زميلة فاطمة، إيمان عيسى، أفضل وحدثتنا عن استقبالها الخبر: "كنت في طريقي لركوب سيارة أجرة، التي تقلنا أنا وزميلاتي للمدرسة يومياً فوجدتهن يبكين، سألت عما يجري فقلن: فاطمة سليمان ماتت، عندما وصلنا إلى المدرسة الكل كان يبكي، أعلنّا الحداد وأوقفنا الدوام".
أخبرتنا العائلة بأن فاطمة قبل أسبوعين تقريبا، أي في الرابع من إبريل/ نيسان الجاري، احتفلت بعيد ميلادها الثاني والأربعين مع طلبة مدرستها، كما وزعت الملبس قبل أيام من استشهادها دون سبب. استشهدت فاطمة وخسرت ابنة أخيها سلام أفضل رفقة يومية إلى المدرسة، ولم يعد لديها من تشاكسه في شهر رمضان المقبل كما تفعل كل عام. كذلك فقدت ميسون زوجة أخ فاطمة الرفقة الطيبة، وهذا حال زميلات الشهيدة في المدرسة وطلبتها.
أما أمل، شقيقة الشهيدة فاطمة، والتي سمعت الخبر وعادت من بلجيكا، فلن تجد فاطمة في استقبالها كما يجري الأمر عادةً، وصارت الوحيدة بين ستة إخوة، حتى الحاجة فضة لن تجد من يتناول كوب الحليب معها صباحاً، وصحيح أنها خاطت ثوب ابنتها قبل استشهادها بلحظات، لكنها الآن تبحث عن طريقةٍ مستحيلة لخياطة جرحها برحيل ابنتها على مرأى من القلب والعين.