تقليص جهاز وزارة الخارجية الأميركية وموازنتها: زمن انحسار الدبلوماسية

29 نوفمبر 2017
واشنطن تخلت عن أدوارها بالعديد من الأزمات(نيكولاس كام/فرانس برس)
+ الخط -
في محاضرة ألقاها الثلاثاء في مؤسسة "وودرو ويلسون " للدراسات والأبحاث بواشنطن حول العلاقات الأميركية  الأوروبية، قال وزير الخارجية، ريكس تيلرسون، إن خفض موازنة وزارته وتقليص جهازها الدبلوماسي "يعكس نجاحنا المتوقع لحل الأزمات الدولية"؛ بحيث لن تكون هناك حاجة لحشد العديد من المسؤولين المختصين للتعامل مع هذه الأزمات. 

وقد أثار كلام تيلرسون الدهشة والقلق في أوساط المراقبين والمهتمين وخبراء ومسؤولين سابقين، لأنه مناقض لواقع الحال واحتمالاته، فضلا عن أنه محاولة للتغطية على "أعتى أزمة دبلوماسية عرفتها أميركا"، على حد تعبير وليام بيرنز، الأستاذ في جامعة هارفارد ومساعد وزير الخارجية سابقاً. 

فالتفريغ من الكوادر والمختصين الذي تتعرض له وزارة الخارجية الأميركية بات حديث الساعة داخل هذه الأوساط، التي لا تخفي قلقها من هذا التوجه وخطورته. 

فما زال نصف المناصب الدبلوماسية العليا الشاغرة ( 153) في الوزارة بلا تعيينات، هذا عدا كوادر الدرجة الثانية التي تقوم بجمع وتحليل المعلومات والتطورات. بل هناك تشجيع وعرض تعويضات مغرية لمن يتطوع بالاستقالة، وبما يتناسب مع الهيكلة الجديدة التي يطرحها تيلرسون، والتي تتلاءم مع الخفض الذي تقترحه الإدارة في موازنة الوزارة بنسبة 31%، من أصل 55 مليار دولار.

وبحسب مراقبين، يجري هذا التقليص بصورة منهجية تهدف لنسف الخط المتوارث في السياسة الخارجية، القائم على نسج التحالفات واستبداله بصيغة التفاهمات والعقود الثنائية التي اعتادها الرئيس دونالد ترامب، الذي لا يتردد في القول: "أنا المهم في المعادلة، وليست الكوادر الدبلوماسية".

هذه المقاربة ترى المدرسة التقليدية أنها تهدد التوجه المعتمد الذي رسمته الولايات المتحدة غداه الحرب العالمية الثانية، والذي "عاد بالنفع الجمّ" عليها، حسب ريتشارد هاس، رئيس "مجلس العلاقات الخارجية". 

ومن هنا تتخوف هذه المدرسة، ونقمتها ليست فقط على البيت الأبيض، بل أيضاً على الوزير تيلرسون، الذي يقوم بترجمة هذا التوجه، خاصة وأن التفريغ ترافقه، بل تلازمه، "استقالة" إدارة ترامب عملياً من الساحة الخارجية عموماً، وعلى الخصوص من أزماتها الساخنة.  

وبنظر كثيرين، يبقى اختيار الموضوع الأوروبي لخطاب تيلرسون في هذه اللحظة، بدلاً من الكوري أو الروسي أو الشرق أوسطي، دليلا آخر على "حالة الاستقالة" التي وجدت ترجمتها على الأرض، من خلال ممارسة السياسة الخارجية إما بالتوكيل، وإما بالانسحاب أو التعليق، أو بالانقلاب على الوعود. 

فالإدارة قبل أن تنهي عامها الأول في الحكم، تخلت أو انسحبت من اتفاقيات دولية مناخية وتجارية، ووضعت أزمات كبيرة في عهدة عواصم أخرى: كوريا الشمالية سلمتها للصين، وسورية لروسيا، وحرب اليمن تركتها للسعودية، كما تركت حصار قطر معلقاً، وانقلبت، أو في الطريق إلى الانقلاب، على وعود واشنطن لأكراد سورية. 

والشيء نفسه مارسته الإدارة الأميركية مع السلطة الفلسطينية، عندما قررت فجأة قبل أيام إغلاق البعثة الفلسطينية في واشنطن من دون مسوّغ، ثم تراجعت عن الخطوة بعد أسبوع بقرار ملتبس أكثر من قرار الإغلاق، وبما ترك وضع البعثة معلقاً وتحت التهديد بوقف عمله إذا أبدت رام الله أي ممانعة للتفاوض حول خطة تنوي الإدارة إعلانها في مطلع العام المقبل، ويقال إنها طلبت من عواصم عربية، القاهرة والرياض، ممارسة الضغوط اللازمة على السلطة لـ"الانصياع" والقبول بمشروع مستشار ترامب، جاريد كوشنير.

على هذه الأرضية يدور النقاش حالياً في واشنطن حول أعطاب سياسة ترامب الخارجية المبنية على "التقلب والتلزيق"، إلا في جانبها الروسي. فالرئيس لا يخفي ميوله للتعاون مع موسكو، لكن مؤسسات النظام، وخاصة الكونغرس، تمنعه من ذلك.

وفي باقي الجبهات، بقيت الممارسة أسيرة الازدواجية واللاجدية، وبما أدى ليس فقط إلى ضمور الحضور الأميركي الدولي الوازن مقابل صعود صيني وتمدد روسي، بل أيضاً إلى فتح الأزمات القائمة على المزيد من المخاطر، خلافاً لتوقعات تيلرسون.

وزير الخارجية الأميركي السابق، جون كيري، قال في خطاب شامل له الأسبوع الماضي: "نحن في زمن خطير، وليس هناك في الوقت الحالي ما هو اعتيادي".




المساهمون