بدأ الرؤساء الأفارقة في اتخاذ خطوات عملية لإبعاد شبح المحكمة الجنائية الدولية عنهم، عبر إصدار قرارات باستكمال إنشاء المحكمة الأفريقية المعنية بالنظر في قضايا حقوق الإنسان والنزاعات الأفريقية. وهو الأمر الذي من شأنه أن يُدخل الأفارقة في مواجهة مع الدول الغربية، وتحديداً الاتحاد الأوروبي، لا سيما بعد أن أعلن الأخير إحجامه عن تمويل المحكمة المنتظرة، وشدد على رفضها، إذ ينظر إليها كمحاولة من القادة الأفارقة تحصين أنفسهم من ملاحقة "محكمة لاهاي".
محاولات غير مكتملة
أتت أولى المحاولات لإنشاء محكمة أفريقية خاصة بقضايا حقوق الإنسان في عام 1961 لتدعيم أسس ميثاق حقوق الإنسان، والتغلب على القيود التي كانت تفرض وقتها على اللجنة الأفريقية لحقوق الإنسان، وهي "جهاز استشاري ولديها آلية خاصة بمراقبة مدى التزام الدول الأطراف ببنود ذلك الميثاق". وتأسست المحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب في عام 1988، فيما دخلت حيز التنفيذ في عام 2005، أي بعد 27 عاماً من تأسيسها.
وتتكوّن المحكمة من 11 قاضياً، يتم انتخابهم من قبل مؤتمر الاتحاد الأفريقي لمدة ستة أعوام، على أن يتم اختيارهم بصفتهم الشخصية، ومن دول مختلفة. ويسمح بإعادة انتخابهم مرة واحدة فقط. ولا يشترط في أعضاء المحكمة، باستثناء الرئيس، التفرّغ الكامل. وتتخذ المحكمة من "أروشا" التنزانية مقراً لها.
وفي الأول من يوليو/تموز 2006، أدى قضاة المحكمة الأوائل اليمين القانونية، وصادقت عليها 26 دولة أفريقية من أصل 54 دولة تشكّل مجموع دول الاتحاد الأفريقي.
وعلى الرغم من وجود المحكمة، إلا أنها لا تحظى بالاعتراف من قبل الدول الأفريقية. كما أنها غير معروفة بشكل كبير في أوساط الشعوب الأفريقية، وغير مفعّلة بشكل يزيد من أهميتها. وعادةً ما يلجأ الأفارقة إلى المحاكم الدولية للفصل في القضايا المتصلة بالنزاعات الحدودية أو خلافه، على الرغم من أن هذه القضايا تدخل في اختصاص المحكمة الأفريقية.
دور الخرطوم
أدت الخرطوم دوراً كبيراً في إخراج قرار الاتحاد الأفريقي الأخير بشأن تفعيل المحكمة، ومطالبة مجلس الأمن الدولي بسحب ملف قضية دارفور من المحكمة الجنائية الدولية، باعتبار أن المجلس هو من بادر بإحالة الملف إلى لاهاي في عام 2005. وعلى إثر ذلك، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية عدداً من مذكرات التوقيف بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحق مسؤولين سودانيين بينهم رئيس الجمهورية عمر البشير ووزير الدفاع عبد الرحيم محمد حسين.
وأبلغت مصادر متطابقة "العربي الجديد" أن السودان أدى دوراً سياسياً كبيراً، خلال قمة الاتحاد الأفريقي الأخيرة في هذا الإطار، ونجح في الدفع برئيس زمبابوي روبرت موغابي الذي يكنّ عداءً تاريخياً للغرب والأوروبيين على وجه الخصوص، وينظر إليهم كمستعمرين عنصريين، وعادة ما يخاطبهم "بالبيض"، إلى تبنّي موقف الخرطوم.
ولدى تسلمه مهامه كرئيس للاتحاد الأفريقي، أعلن موغابي أنه سيقضي على المحكمة في لاهاي خلال فترة رئاسته. واعتبر رئيس زمبابوي المحكمة "سلاحاً يوجهه المستعمرون ضد الأفارقة". وأعاب على الرئيس الكيني اوهورو كنياتا تسليم نفسه إلى الجنائية الدولية التي برّأته أخيراً. وفي إطار هجومه على المحكمة، قال موغابي إنه ينبغي علينا "أن لا نستمر في الخضوع للبيض "الأوروبيين" كما فعل أجدادنا. فقد آن الأوان أن نستقل عنهم ونعتز بحريتنا".
وشكل اختيار موغابي لرئاسة الاتحاد الأفريقي صدمة للأوروبيين الذين لا يرون في الأخير الرجل المناسب لقيادة القارة إقليمياً، لا سيما أن مساحات التفاهم بين الاتحادين الأفريقي والأوروبي ستضيق خلال توليه هذه المهمة، نظراً إلى أنه يجاهر بعداء الغرب.
وزير الدولة في الخارجية السودانية، كمال إسماعيل، لم يخف ارتياحه للقرارات الأفريقية الأخيرة في ما يتصل بالجنائية الدولية والمحكمة الأفريقية، معتبراً أن القرارات جاءت بعد أن أثار الغرب حفيظة الأفارقة في ما يتصل بالمعاملة الاستفزازية والمتعالية التي وجدوها خلال مؤتمر المحكمة الجنائية الذي عقد أخيراً، فضلاً عن تركيز الجنائية عملها في القارة السمراء فقط.
واعتبر إسماعيل المحكمة الأفريقية بديلاً للجنائية الدولية، مما دعا الأفارقة إلى حسم القرار بشأن استكمال قيام الأولى. وأكد وزير الدولة في الخارجية السودانية أن الخرطوم ستعمل على دعم المحكمة الأفريقية والمصادقة عليها بعد إكمال عدد من الترتيبات المتصلة بتلك العملية. وأوضح أنه "خلال الاجتماعات الأخيرة للمجلس التنفيذي للاتحاد الأفريقي، نقل مفوّض الشؤون القانونية في الاتحاد إلى وزراء الخارجية المجتمعين رفض الأوروبيين تمويل المحكمة، وسعيهم إلى الحد من قيامها، الأمر الذي كان بمثابة "القشة التي قسمت ظهر البعير"، باعتباره أمراً مستفزا،ً وقاد كينيا إلى التوقيع مباشرة على بروتكول المحكمة".
صدام مع الاتحاد الأوروبي
ومن الواضح أن الأفارقة بدأوا بالتفكير العملي في البحث عن مصادر تمويل للخروج من عباءة الغرب، وإبعاد شبح الجنائية الدولية عنهم. وهذا يفسّر القرار الذي اتخذ خلال قمة الاتحاد الأفريقي في ما يتصل بملاحقة ومحاصرة الأموال الأفريقية المهربة إلى الدول الأجنبية.
ويقول الوزير السوداني، كمال إسماعيل، "إن حجم تلك الأموال، وفقاً لبعض التقديرات، يتجاوز 154 مليار دولار"، مضيفاً "لو نجحنا في تثبيتها داخل أفريقيا، وأعيد استثمارها هناك لأغنت القارة السمراء عن ما يأتيها من قروض وأموال من الدول الأجنبية".
ويعتمد الاتحاد الأفريقي في تمويل أنشطته على الدعم الذي يأتي من الدول الغربية، لا سيما في ظل عجز الدول الأفريقية عن سداد اشتراكاتها. وبمقتل الديكتاتور الليبي السابق معمر القذافي، وإزالة نظامه عن طرابلس الذي كان يضخ أمولاً طائلة في الاتحاد الأفريقي، أصبح الاتحاد الأوروبي الممول الرئيسي بلا منازع للمنظمة الأفريقية. وهو الأمر الذي يجعل الأفارقة يفكرون مراراً قبل اتخاذ قرار المواجهة مع الغرب الذي يؤدي دوراً أساسياً في تمويل دول أفريقية بعينها وفاعلة في الاتحاد.
فعالية غائبة
ويرى مراقبون أن الخطوة برمتها جاءت كردود أفعال على أحداث وقتية، ومحاولة من القادة الأفارقة المساومة في ما يتصل بقضية المحكمة الجنائية، لا سيما في ما يتعلق بإيقافها الرؤساء إبان حكمهم، من دون أن يشكل ذلك حصانة لهم. ويعتبر المراقبون أن تفعيل المحكمة الأفريقية شبه مستحيل في الوقت الراهن، باعتبار أن الأمر برمته يرتكز على الإرادة السياسية، وقائم على الديمقراطية واحترام الحريات. وهو ما يعد غائباً في معظم الدول الأفريقية التي تشهد أنظمة دكتاتورية، بعضها جاء بانقلاب عسكري، والآخر قنّن لنفسه بتزوير الانتخابات. كما أن كافة المؤشرات والدلائل تؤكد أن الاتحاد الأوروبي لن يسمح للأفارقة بإنشاء محكمة موازية للجنائية التي عمل على تأسيسها، وأن بإمكانه استخدام سلاح المال لدفع الأفارقة إلى التراجع عن الخطوة.
ويقول مدير المركز الأفريقي لدراسات حقوق الإنسان في الاتحاد الأوروبي، عبد الناصر سلم، لـ "العربي الجديد" إن "الاتحاد الأفريقي غير مؤهل لقيادة عمل بهذه الصورة الكبيرة التي تتطلب أموالاً ضخمة لتمويل محكمة عابرة للحدود، بما تفرضه من التزامات لجهة توفير حماية لأفرادها وللشهود، وإمكانات هائلة للتحرك والتنقل، فضلاً عن الحيادية غير المتوفرة لدى الأفارقة".
ويوضح سلم أن "الاتحاد الأوروبي ينظر إلى تلك الخطوة كمحاولة للالتفاف على القضايا المفتوحة أمام الجنائية الدولية، ويرى فيها نوعاً من المشاكسة السياسية لكسب الأوراق العالقة بين الاتحاد الأوروبي والمجتمع الدولي، وفي مقدمتها ملف الرئيس السوداني".
ووفقاً لمدير المركز الأفريقي لدراسات حقوق الإنسان في الاتحاد الأوروبي، فإن قرار تفعيل المحكمة الأفريقية هو "نتاج تحركات الخرطوم مع لاعبين في القارة، يرون في الجنائية تهديداً لهم، لا سيما أن كافة القضايا التي تنظر أمام محكمة لاهاي تتعلق بالدول الأفريقية، باستثناء ملف يوغسلافيا".
ويؤكد سلم أن المجتمع الدولي لن يعترف بالمحكمة الأفريقية، لا سيما أن الجنائية الدولية أُنشئت بقرار أممي، فضلاً عن نظرته إلى الدول الأفريقية كدول غير ديمقراطية، ومنتهكة لحقوق الإنسان.
من جهته، يرى القانوني السوداني، معز حضرة، في حديث إلى "العربي الجديد" أن المحكمة الأفريقية بلا فعالية أو جدوى، موضحاً أن "المحكمة موجودة منذ سنوات طويلة، لكنها حتى الآن لم تفصل في العديد من القضايا التي رفعت أمامها". ويشير حضرة إلى أن "هناك قضايا تتصل بانتهاكات في إقليم دارفور، وأخرى بانتهاك حقوق الإنسان في السودان"، لكن المحكمة "لم تحرك ساكناً"، فيما يلفت أيضاً إلى أن "الخرطوم والحكومات الأفريقية لا تعترف بها".
بدروه، يقول المحلل السياسي علاء الدين بشير لـ "العربي الجديد" إن "الجنائية الدولية لتكون واقعاً على الأرض استغرق ذلك عشرات السنين إلى أن أصبح لديها قوة عالمية تقف خلفها، وأصبحت نافذة على الرغم من أنها تعاني من عقبات حتى الآن"، قبل أن يتساءل "فما بالك بقارة كأفريقيا، تُعرف بفساد ودكتاتورية حكامها. الأمر الذي يجعل من إنشاء محكمة تنظر في انتهاكات حقوق الإنسان وجرائم الحرب أمراً مستبعداً تماماً، لا سيما في الوقت الحالي". ويلفت بشير إلى أن "مؤسسات الاتحاد الأفريقي نفسها غير فعالة في حل النزاعات الأفريقية، وتستعين بالغرب، فما زالت تجربتها غير ناضجة بالنظر إلى دورها في دارفور وفي الصومال وجنوب السودان وغيرها من الدول التي تشهد نزاعات، وتتطلب دوراً أفريقياً نافذاً".
ويؤكد أنه "لا توجد حساسية عالية للأفارقة عموماً تجاه قضايا حقوق الإنسان. وواضح أن الخطوة برمتها قصد منها تحصين القادة الأفارقة للتغطية على الجرائم التي يرتكبونها في بلدانهم، وللإفلات من العقاب".