تفاوض بلا تنازلات

06 مايو 2016
+ الخط -
جوهر التفاوض تقديم التنازلات وانتزاعها. لذلك، يبدو غريباً أن يذهب فريقٌ ما إلى طاولة مفاوضات، فيما هو يصرح إنه غير مستعد لتقديم أي تنازلات، وفيما جمهوره يهتف من خلفه: لا تنازل عن شروطنا المقدسة، ونقيض التفاوض في القاموس السياسي هو النصر الحاسم أو الإقرار بالهزيمة والاستسلام.
في جولات التفاوض السورية (سيتوقف الإعلام عن إحصائها) شهدنا ظاهرةً فاقعةً من هذا النوع، فوفد النظام يذهب، كل مرة، وهو يشعر أنه ذاهب إلى اجتماع لقيادة الجبهة الوطنية التقدمية، وأن حواره مع وفد المعارضة سيكون مثل حواره مع حزب الوحدويين الاشتراكيين، أو مع الحزب الشيوعي السوري ـ جناح خالد بكداش، فهذا أعلى شكل من المعارضة، يمكن للنظام السوري تخيله، وهو كذلك يظن أن الثمن الذي سيدفعه نتيجة هذا الماراتون التفاوضي الطويل سيكون من قبيل تخصيص ستة مقاعد في مجلس الشعب ووزارة البيئة لشخصيات معارضة، وهو سيفاوض بمهارةٍ لجعلها خمسة مقاعد ووزارة بدون حقيبة. يرى النظام السوري، في النهاية، بعضاً من شخصيات المعارضة، يقفون باحترام وتهذيب، ويؤدون القسم أمام بشار الأسد شخصياً. ويدرك النظام، في عمق تكوينه، أن أي نوع من أنواع التنازل السياسي سيكون نهايته المحتومة، فهو جسم متهالك مليء بالتصدّعات والثقوب، وقد عمل أربعين عاماً على محاولة سد ثقوبه، واحداً تلو الآخر، وأي تنازل هو فتح لثقب قديم سيتسرب منه التغيير، وسيصل حد الانهيار سريعاً.
هو نظام له شكل محدّد، وقالب محدّد ضيق، وتصور ضيق للعالم. لذلك، هو في جوهره غير مؤهل، وغير قادر على تقديم تنازلات حقيقية. وبالتالي، غير مناسب للخوض في مفاوضات، وقد فشل سابقاً في التفاوض مع إسرائيل على استعادة الجولان، وتوقيع اتفاقية سلام. وفشل في التفاوض مع تركيا على إغلاق ملف لواء اسكندرون، وفشل في التفاوض مع الاتحاد الأوروبي على اتفاقية الشراكة الأوروبية المتوسطية، وفشل في التفاوض مع شركات النفط العاملة في سورية، وفشل في التفاوض مع المجتمع السوري في الأسابيع الأولى للثورة، وهو المجتمع الذي كان مستعداً، وقتها، لتلقف بعض التنازلات المنطقية، وبالحد الأدنى مما يستحق.
نماذج مفاوضاته الناجحة متشابهة، ولها مواصفات محدّدة، فقد نجح في التفاوض على الخروج من لبنان، بعد اغتيال رفيق الحريري، فخلال دقائق (ربما بعد اتصال هاتفي من مسؤول أميركي ما) وافق على جميع الشروط، وأنهى العملية التفاوضية، وأخرج جيشه من لبنان خلال أيام. كذلك نجح في التفاوض على ملف الزعيم الكردي عبد الله أوجلان مع تركيا، فأذعن لشروطها، وقدّم لها أوجلان بالطريقة التي أرادتها، وآخر نجاحاته التفاوضية كان الملف الكيماوي، فخلال أيام سلم ترسانته الكيماوية (كان يفتخر بها ويراهن عليها).
تذهب المعارضة إلى التفاوض، وهي محاطة برفض شعبي عارم، لأي نوع من التنازلات، وبتصورٍ غير واقعي لفكرة التفاوض من أساسها، وهي تولد الجسم السياسي المناسب لكل جولةِ تفاوض (ويثبت، في النهاية، أنه غير مناسب كذلك). وفي كل مرةٍ يتم فيها الإعلان عن جولة تفاوض، ترتفع الأصوات، لترفض أو توافق أو تضع الشروط. ولا تخرج هذه الأصوات عن تياراتٍ سياسيةٍ، لها وزنها الفعلي على الأرض، وليست تعبيراتٍ عن قوى مجتمعية، حية وفاعلة. بل هي مجرد آراء مشتتة لأناسٍ مثلنا يكتبون على "فيسبوك" أول ما يخطر ببالهم، فتتحوّل لعبة التفاوض إلى ساحة لإطلاق الشعارات والمطالب غير الواقعية.
ففي أول جولة تفاوضية بين النظام والمعارضة (جنيف 1) صرّح أحد أعضاء الوفد المعارض "إننا قادمون لنفاوض على أسماء الخمسمائة شخص الذين يحق لهم الخروج مع بشار الأسد) وهلل كثيرون لتلك العبارة "الثورية الصارمة"، معتقدين أن الأسد أرسل بشار الجعفري ليسلم السلطة. وفي جولاتٍ أخرى، طالب المفاوضون بسلل غذائية لبعض المناطق، وإطلاق سراح النساء المعتقلات.
هذه ليست عملية تفاوضية، ولا تملك أياً من مواصفات التفاوض الحقيقي، فمن أين تأتي وسائل الإعلام بتلك القدرة على إعطائها أهمية ما، وتستخدمها لبث التفاؤل والأمل لدى الناس؟
طرفان ذاهبان إلى التفاوض، واحد لا يمكنه التفاوض، والآخر لا يعرف على ماذا يفاوض، فما الذي يفعلانه إذا؟ إنهما يضيعان الوقت، والوقت هنا ثمنه دم وأرواح.
A78EE536-6120-47B0-B892-5D3084701D47
علا عباس

كاتبة وإعلامية سورية