تفاؤل حذر بنمو الاقتصاد اليوناني

21 فبراير 2020
ارتفاع نسب الفقر في اليونان (آريس ميسينيس/ فرانس برس)
+ الخط -
بعد تسع سنوات من أزمة اقتصادية طاحنة، واقتراب الدولة من شبح الإفلاس، عادت مؤشرات الاقتصاد اليوناني إلى التوقعات المتفائلة، حيث تتوقع الحكومة أن ينمو الاقتصاد بنسبة 2.8% في 2020 مع احترام التعهدات المالية لدائني البلاد، كما توقعت مؤسسة ستاندرد أند بورز أن يبلغ معدل النمو الاقتصادي اليوناني 2.5% خلال الفترة 2019-2022، بسبب تعافى الطلب المحلي. 

كما توقع صندوق النقد الدولي في نهاية سبتمبر/ أيلول الماضي أن يبلغ معدل نمو اقتصاد اليونان لعامي 2019 و2020 نحو 2%، حيث يستفيد النمو على المدى القريب من الانتعاش الدوري وتحسن معنويات السوق والمستهلكين، الأمر الذي يجب أن يترجم إلى زيادة الاستثمار.

وكانت ستاندرد أند بورز قد رفعت تصنيف اليونان للديون الخارجية في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي درجة واحدة إلى -BB بدلاً من +B استنادا إلى توقعات محسنة للموازنة وتوقعات النمو القوية، ما جعل اليونان أقل بثلاث درجات فقط من الدرجة الاستثمارية المطلوبة.

وحافظت الوكالة على توقعاتها الإيجابية للاقتصاد اليوناني. وجاء ذلك في الوقت الذي رفعت فيه وكالة التصنيف الألمانية "سكوب" التصنيف إلى BB من -BB مع نظرة إيجابية أيضا. ويدعم هذه التوقعات تقديم اليونان طلبا لسداد جزء من قروض صندوق النقد الدولي قبل تاريخ استحقاقه في سبتمبر الماضي.
وكانت البورصة اليونانية واحدة من أفضل البورصات أداءً في العالم في العام الماضي، لا سيما بعد تحسن أداء أسهم القطاع المصرفي بقوة، حيث كان الأفضل أداءً بين جميع القطاعات، وتضاعفت قيمة أسهمه في أقل من 12 شهراً.

وعلى الرغم من أن البنوك اليونانية مثقلة بكمية ضخمة من القروض المتعثرة بلغت نحو 75 مليار يورو (83 مليار دولار)، وهو ما يعادل نحو 40% من إجمالي قروض البلاد، ونجحت اليونان في تخفيف ثقل تلك الديون على تقييم الأسهم.

وفي أغسطس/ آب 2018، أنهت اليونان برنامجها المالي الثالث للإنقاذ، منهية بذلك 8 سنوات من خطط التقشف والإصلاحات وتقليص برامج الرعاية الاجتماعية، مقابل الحصول على قروض ضخمة للخروج من أزمتها المالية وكسادها الكبير.

وكانت اليونان قد حصلت من صندوق النقد وشركائها في منطقة اليورو في أعقاب الأزمة الحادة، على مساعدات قدرت بنحو 289 مليار يورو، استلمتها على ثلاث حزم مساعدات في الأعوام 2010 و2012 و2015، بعد اندلاع أزمة الديون عام 2010 في أعقاب الأزمة المالية عام 2008. وفي المقابل، اضطر اليونانيون إلى تطبيق مئات الإصلاحات المؤلمة، وكان هدفها الأساسي تصحيح مسار المالية العامة للدولة.

وساهمت تلك الحزم في تحسن الكثير من مؤشرات الاقتصاد الكلى خلال الفترة الماضية، حيث تراجعت البطالة من 26% في بداية الأزمة إلى 18% بنهاية 2018، كما حققت الموازنة العامة بنهاية العام الماضي فائضاً أولياً نسبته 4.4% من الناتج المحلي الإجمالي إذا استثنينا فوائد الدين العام.
وفي أول إصدار سيادي منذ 10 سنوات، طرحت الحكومة في مارس/ آذار الماضي سندات بقيمة 2.5 مليار يورو، فاقت طلبات الاكتتاب قيمتها 5 أضعاف الطرح، وفي إبريل/ نيسان الماضي هبطت فوائد تلك السندات إلى أدنى مستوى من 14 سنة إلى 3.27%، بعدما كانت قد ارتفعت فوائد العشر سنوات إلى 30% في ذروة الأزمة. ما يشير بوضوح إلى عودة ثقة المستثمرين بالسندات اليونانية والمستقبل الاقتصادي بصفة عامة.

سمحت هذه النتائج بخروج اليونان، العام الماضي، من تحت الوصاية المالية التي فُرِضت على البلاد من قِبَل الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوروبي، والمشروطة باستمرار تحقيق فائض أولي في الموازنة بنسبة 3.5% حتى عام 2022.

واعترافا بهذا النجاح، وافق وزراء مالية منطقة اليورو في إبريل من العام الماضي على منح اليونان 970 مليون يورو، في إطار برنامج ما بعد خطة الإنقاذ لمراقبة الإصلاحات بأثينا. وتعد المنحة الدفعة الأولى من حزمة إنقاذ بقيمة 4.8 مليارات يورو تعهد بها دائنو منطقة اليورو لليونان حتى عام 2022، في إطار برنامج ما بعد الإنقاذ في أثينا.

وتأتي موافقة وزراء مالية منطقة اليورو على هذه المنحة بشرط احترام اليونان تعهدات الإصلاح الخاصة بها، وخصوصاً القانون المتعلق بتعافي المصارف من الديون، الذي يستهدف خفض عبء الديون المشكوك في سدادها بميزانيات المصارف اليونانية.

وفي إطار سعيها نحو التخلص من أزمة الديون المصرفية، أطلقت الحكومة اليونانية برنامجا سمّته "مشروع هيراكليس"، الذي يتضمن مزيجاً معقداً من التوريق وضمانات الدولة، وتتعهد فيه الحكومة بإتاحة ضمانات بنحو 12 مليار يورو للمقرضين، بعد تصنيف القروض إلى شرائح وفقاً لدرجة خطورتها، وستضمن الحكومة الشريحة "الممتازة"، بينما ستكون الشرائح "المتوسطة" و"الدنيا" أقل تمتعاً بالحماية، وستبقي البنوك على الشريحة الممتازة فقط في موازناتها، بينما تورق الشريحتين المتوسطة والدنيا وتبيعهما للمستثمرين.
ومن المتوقع أن يؤدي تطبيق المشروع إلى بعض الضرر والمعاناة للمصارف في متطلبات رأس المال، خاصة أن تلك المصارف قيمت القروض بصورة مبالغ فيها كثيراً، كما أنه قد يخلق مخاطر ليست بالسهلة لدافعي الضرائب والموازنة العامة الذين سيتحملون فاتورة الضمانات الحكومية، وستصبح أموالهم في قبضة الشريحة الممتازة من الديون، وستتوقف درجة المخاطرة على تمكن البنوك من استعادة أموال الضمان وعلى تعافي الاقتصاد بصورة عامة، فكلما تسارع معدل النمو تزايد احتمال السداد.

ورغم هذه المخاطر، فإن الاحتفاظ بالشريحة الممتازة التي تعتبر بلا مخاطر تقريباً سيسمح لرأس المال في البنوك أن يُستخدم بشكل أفضل، بالإضافة إلى تخلصها من القروض المتعثرة، والبدء في مرحلة جديدة طال انتظارها من العمل على التنشيط الاقتصادي، وهو ما يفرض على الحكومة في المقابل أن تتابع مسيرتها في إصلاح القوانين اليونانية المعقدة الخاصة بالتوقف عن السداد، لا سيما في ظل الوضع الحالي الذي توجد فيه العديد من الوسائل لإعلان إفلاس الشركات والأفراد، ما يوفر خيارات واسعة للمفلس للمفاضلة بين هذه الوسائل المختلفة.

ويزيد من فرص نجاح المشروع أن البنوك اليونانية في وضع أفضل من نظيراتها الأوروبية، حيث سعر الفائدة على الإقراض أعلى منه في بلدان أخرى داخل منطقة اليورو، ما يوفر للبنوك هامش ربح أكبر، قد يعوض بعض الشيء الحاجة إلى الأموال لتعزيز موازناتها مرة أخرى بعد التخلص من القروض المتعثرة.

ورغم كل النجاحات السابقة، إلا أن العديد من الخبراء والمؤسسات الدولية نبهوا إلى وجوب عدم الافراط في التفاؤل، والركون إلى بعض المؤشرات وإهمال بعضها الآخر، وأشار صندوق النقد إلى أنه رغم توقعه بنمو الاقتصاد اليوناني بمعدل 2% خلال العامين القادمين، إلا أنه يتوقع كذلك أن النمو طويل الأجل للاقتصاد سيكون بمعدل 0.9% فقط، ما يعني أن الأمر سيستغرق عقدًا ونصف من الزمن لوصول نصيب الفرد الحقيقي من الدخل إلى مستويات ما قبل الأزمة المالية.
كما علقت وكالة ستاندارد أند بورز للتصنيف الائتماني على تحسن معدلات البطالة بقولها إن معدلات البطالة لا تزال الأسوأ في أوروبا، رغم انخفاضها لأول مرة إلى أقل من 20% في عام 2018، انخفاضاً من 20.5% في 2017، وبعدما بلغت 27.9% في 2013.

كما تشير بعض الدراسات حول الاقتصاد اليوناني إلى وجود أكثر من 35% من السكان تحت عتبة الفقر، واضطرارهم إلى قبول رواتب شهرية تقل عن 500 يورو، كما يعيش نصف اليونانيين بدون رواتب تقاعدية لهم أو لأقاربهم، ويؤجل 40% من الأسر زياراتهم للطبيب لأسباب مالية. وأفرز الوضع الصعب سعي الشباب الحثيث نحو الاغتراب والهجرة، وتشير الدراسات إلى وجود 7 من كل 10 شباب تراوح أعمارهم بين 18 و35 عاما يطمحون إلى مغادرة البلاد.

وأخيرا أشار صندوق النقد الدولي إلى أن اليونان عرضة لمجموعة من الصدمات الخارجية والمحلية، وأن البنوك الضعيفة باليونان تضعف من احتمالات النمو وتشكل مخاطر كبيرة على الاستقرار المالي والنقدي، كما توقع أن تتجه نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى الانخفاض خلال العقد المقبل مع مخاطر سيولة منخفضة نسبيا على المدى المتوسط.

ورغم ارتفاع المؤشر المصرفي اليوناني القياسي بنسبة 90% خلال العام الحالي، إلا أن المستثمرين يخشون من أن يؤدي الفشل في تقليص القروض المعدومة إلى دفع بعض البنوك نحو طلب رأسمال إضافي.
تضاف إلى كل ما سبق المعاناة الكبيرة التي تعانيها شركة "بابليك باور" المسؤولة عن توليد ثلثي الطاقة في البلاد، وتقريباً كل الإمدادات من الكهرباء، لا سيما بعد الشكوك المثارة منذ منتصف العام الماضي حول قدرة الشركة الحكومية على مواصلة عملياتها إثر خسارتها التي تجاوزت 500 مليون يورو في 2018، واستمرار خسائر الشركة في العام الماضي، ما دفع رئيس مجلس الإدارة الرئيس التنفيذي إيمانويل باناجيو تاكيسالي، إلى التصريح بأنه "يتعين على الحكومة اليونانية الجديدة السماح للشركة بدخول شريك استراتيجي لأنه الخيار الوحيد للشركة لتعود إلى الأرباح واستغلال كامل إمكاناتها".

أخيراً، فإن سياسة التقشف التي فرضها الدائنون على الحكومات اليونانية المتعاقبة أدت إلى احتجاجات وإضرابات مستمرة، وإلى التأثير السلبي على الطبقات الفقيرة والمتوسطة، ما أدخل البلاد إلى الركود بسبب تراجع الاستهلاك المحلي.

وبالتالي فإن أي تفاؤل حول مستقبل نمو الاقتصاد اليوناني يجب أن يكون مشوبا بالحذر، لأن الأمر يتعلق بقدرة الحكومة على تدوير عجلة الاستهلاك، وهو الهدف الذي يتعارض مع التزامات الدولة أمام الدائنين، وأمام أهداف برنامجها الإصلاحي الداخلي.
المساهمون