تغييب منظمة التحرير
وصب في هذا الاتجاه، بقصد أو من دون قصد، إحلال مؤسسات السلطة الوطنية الفلسطينية في مكان مؤسسات منظمة التحرير، واستلاب دورها، بعد إنشاء السلطة عام 1994، بتشكيل مؤسسات موازنة لمؤسسات المنظمة، ما لبثت أن ابتلعتها بعملية إلحاق ودمج متدرّجة، وصلت إلى ذروتها في تصفية موجودات الصندوق القومي، وضمها إلى خزينة وزارة مالية السلطة، في عهد الرئيس الراحل ياسر عرفات.
سبق ذلك عملياً إنهاء دور الدائرة السياسية لمنظمة التحرير، وكان يترأسها فاروق القدومي، وهو ما صرح به نبيل شعث في سبتمبر/ أيلول عام 2000، وكان يشغل، حينها، وزارة التخطيط والتعاون الدولي في حكومة السلطة، حيث أكد، في حديث لصحيفة الشرق الأوسط، أن وزارته "تقوم بمهام وزارة الخارجية منذ اتفاق أوسلو قبل 6 سنوات".
ويمكن سحب ظاهرة مصادرة المهام على باقي مؤسسات منظمة التحرير، وجرى تنفيذها في المرحلة الأولى من عمر السلطة، بضم أكبر عدد ممكن من أعضاء اللجنة التنفيذية للمنظمة إلى عضوية حكومات السلطة، والجمع بين رئاستي المنظمة والسلطة، وحصر الصلاحيات التشريعية بالمجلس التشريعي الذي استحدثته السلطة، بما فيها المصادقة على التشكيلات الحكومية، والإبقاء على المجلس الوطني الفلسطيني ديكوراً من نظام سياسي قديم، جرى تفعيله مرتين فقط منذ اتفاق أوسلو، بعقد دورتي عمل له في قطاع غزة، لم تحظيا بإجماع وطني، وشُكك في دستوريتهما، من زاوية اكتمال النصاب القانوني والإضافات الجديدة على عضوية المجلس.
كرّست الدورتان لتعديل الميثاق الوطني الفلسطيني، الأولى في إبريل/ نيسان 1996، والثانية في ديسمبر/ كانون الأول 1998، بحضور الرئيس الأميركي الأسبق، بيل كلينتون، وشملت التعديلات حذف كل ما يتعلق بالكفاح المسلح، وإنهاء دولة إسرائيل، وإدانة الصهيونية حركة استيطانية عنصرية. ليدخل المجلس بعدها في حالة موت سريري، وفي بعض المحطات، عقدت اجتماعات للمجلس المركزي الفلسطيني الذي يعدّ هيئة دائمة منبثقة عن المجلس الوطني، إلا أنها كانت، بدورها، لتمرير قضايا سياسية بعينها، بقيت موضع خلاف، مثل التمديد للرئيس محمود عباس عام 2009.
ويواجه المجلس الوطني طعوناً بانتهاء ولايته القانونية، منذ مدة طويلة، وهذا ينسحب، أيضاً، على المجلس المركزي واللجنة التنفيذية. وتطال الطعون كذلك المجلس التشريعي للسلطة الذي انتهت ولايته عام 2010، ورئيس السلطة الذي انتهت فترته الرئاسية القانونية عام 2009، غير أن الطعون المتعلقة بالمجلس الوطني والهيئات المنبثقة عنه تمتد إلى دوره المستقبلي، فالنظام الأساسي للسلطة وتعديلاته منح الصلاحيات التشريعية للمجلس التشريعي، سلطة منتخبة ومستقلة، بما يتعارض مع إعطاء المجلس الوطني، مستقبلاً، أي صلاحيات مناظرة، بصرف النظر عن التوظيف الآني للمجلس المركزي، بين فترة وأخرى، من رئاسة السلطة. فالتوجهات السياسية للرئيس عباس وفريقه لا تتواءم مع إخراج مؤسسات منظمة التحرير التشريعية والتنفيذية من حالة الموت السريري. وفي المقابل، تتخذ حركة حماس مواقف من برنامج المنظمة، لا تساعد على إعادة ترميمها، وإحياء دورها.
وفي الإطار الأوسع، تعارض إسرائيل والولايات المتحدة بشدة تفعيل مؤسسات وبرنامج المنظمة، كما أن كل الدوائر الدولية والإقليمية والعربية لم تعد تتعامل مع منظمة التحرير بكونها "ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني"، بل مع السلطة الفلسطينية المستندة إلى اتفاقيات أوسلو التي تجزّئ الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية.
إن تغييب مؤسسات منظمة التحرير، بدورها التمثيلي الوطني الجامع، للشعب الفلسطيني في الوطن ومناطق اللجوء، وإحلال مؤسسات السلطة الفلسطينية، على أساس اتفاقيات أوسلو الجزئية والمنقوصة، يشكل ضربة قاصمة للمشروع التحرري الفلسطيني، وخسارة للإنجاز الوطني الأكبر منذ النكبة عام 1948، والذي تحقق بفضل حالة استنهاض قوى الفلسطينيين في ستينيات القرن الماضي، كانت أول ثمارها تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية وجيش التحرير الفلسطيني في 1964، وانطلاق العمل الفدائي في الأول من يناير/ كانون الثاني 1965، الذي أعاد تعريف القضية الفلسطينية بما هي قضية تحرر وطني، وحق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال، أسوة بكل الشعوب الأخرى التي قاومت الاستعمار والاحتلال، ونالت استقلالها.
فقد أوجدت منظمة التحرير الفلسطينية بالتراكم، استناداً إلى برنامجها المقاوم، معادلة جديدة في الفهم الرسمي العربي للصراع مع إسرائيل، تقوم على إقرار الرسميات العربية بخصوصية الدور الذي يجب أن ينهض به الفلسطينيون في مقاومة الاحتلال وتحرير وطنهم، وحقهم في تقرير مصيرهم، والإمساك بناصية قضيتهم، من دون وصاية أو استلاب، بعد أن لعبت قوى إقليمية ـ عربية دوراً مدمراً للقضية الفلسطينية، إثر قيام دولة إسرائيل، من خلال مشاريع تذويب وشطب الهوية والشخصية الوطنية الفلسطينية المستقلة والجامعة.
كانت المحطة المفصلية ونقطة الانطلاق لهذه المشاريع حينها "مؤتمر أريحا" الذي عقد في 1949، وتشكلت عضويته من زعامات إقطاعية وعشائرية فلسطينية محسوبة على الأردن، واختتم المؤتمر بإعلان بُرمج مسبقاً يدعو لوحدة الضفة الفلسطينية (الغربية) مع المملكة الأردنية الهاشمية.
وتم إلحاق الضفة الفلسطينية رسمياً بالمملكة الأردنية الهاشمية في 1950، وكانت حجة النظام الأردني في رفض الاعتراف بهوية الشعب الفلسطيني، وقيام دولة فلسطينية مستقلة، عدم الرغبة بزيادة عدد الكيانات العربية، واستحالة قيام دولة مستقلة وقابلة للحياة في المناطق الجبلية الوعرة التي تتميّز بها مناطق الضفة الفلسطينية، على عكس الساحل الفلسطيني الذي احتلته العصابات الصهيونية وأنشأت عليه دولتها. ورفض النظام الأردني في 1964 قرار إنشاء منظمة التحرير، وبقي عند موقفه السلبي منها، حيث رفض في 1974 قرار القمة العربية في الرباط الذي اعتبر المنظمة الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، ولم يسلِّم بذلك إلا في 1988، عندما أعلن فك ارتباطه القانوني والإداري بالضفة الفلسطينية، من دون مدِّ ذلك إلى تعديلات دستورية.
وأمام استعصاء العملية التفاوضية الفلسطينية ـ الإسرائيلية، وخطر حل أو انحلال السلطة، أطلقت دعوات عديدة لإعادة الاعتبار لمنظمة التحرير ومؤسساتها، وثبتت في نص "إعلان القاهرة" في مارس/ آذار 2005، إلا أنها غرقت في دوامة الصراع الداخلي الفلسطيني، ومراهنة فريق رئاسة السلطة على إخراج المفاوضات من النفق المسدود الذي وصلت إليه.
وإذا ما استمر تغييب مؤسسات منظمة التحرير، فإن احتمال انهيار السلطة الفلسطينية سيعيد إحياء خيارات بديلة للمشروع الوطني التحرري الفلسطيني، وفي مقدمتها، بلا منازع، الخيار الأردني، الذي لم يُرفع عن الطاولة فعلياً، فالمراهنات الرسمية الأردنية على العودة لإلحاق الضفة الفلسطينية بالأردن ما زالت قائمة خياراً احتياطياً، بديلاً للعملية السياسية والتفاوضية المتعثرة على المسار الفلسطيني، على الرغم من إعلان الملك حسين في 1988 قرار فك الارتباط القانوني مع الضفة الفلسطينية (الغربية)، وتوقيع الأردن على اتفاقات وادي عربة عام 1994، التي اعتبرت نهاية مشاركته في الصراع مع إسرائيل، وتوقيع اتفاق أوسلو بين الفلسطينيين والإسرائيليين.