بالمخالفة للقوانين وحقوق الإنسان، وكذلك القواعد المهنية والإعلامية؛ دأب الإعلام المصري على التمييز على أساس النوع الاجتماعي في تناوله للقضايا التي تتعلق بالتحرش الجنسي أو ما يسمى بـ"الإخلال بالآداب العامة وقيم الأسرة المصرية". فجاءت التغطية الصحافية والإعلامية للقضايا التي تمثُل فيها متهمات محرّضة، ومختلفة كلياً عن القضايا التي يمثُل فيها متهمون ذكور.
التمييز على أساس النوع، ظهر في حالتين. الأولى في نشر صور المتهمات بشكل صريح، مع الحرص على انتقاء صور توحي للقارئ بمعنى مقصود يتماشى مع طبيعة الاتهامات الموجه لهن، في حين لم ينشر أغلب وسائل الإعلام والصحافة صور أي من المتهمين في قضايا الرأي العام الأخيرة المتعلقة بدعاوى التحرش الجنسي والاغتصاب من الذكور.
وتأتي قضية فتيات "تيك توك" لتوضح النموذج ذاك، إذ ساهم الإعلام في إرساء صورة سلبيّة عنهنّ، فيما اكتفى بالتستّر على الرجال المتهمين بالتحرش والاعتداء والابتزاز. وفي مثال صارخ، قام موقع "القاهرة 24" الإخباري، المقرب من الأجهزة المخابراتية، بنشر تقرير بعنوان "مودة الأدهم ترفض الكشف عن عذريتها وأرصدتها في البنوك"، مع صورة لها ترتدي سترة رسمية، ثم قام بتغيير الصورة على نفس التقرير لاحقًا، واستبدلها بصورة لها ترتدي فستاناً قصيراً ومفتوحاً.
والأسبوع الماضي، قضت المحكمة الاقتصادية بالقاهرة بالحبس لمدة عامين وغرامة 300 ألف جنيه بحق خمس فتيات بينهن الفتاتان المؤثرتان على "تيك توك" حنين حسام ومودة الأدهم في اتهامهنّ "بالتحريض على الفسق والفجور" وإدانتهن "بالتعدي على قيم المجتمع" من خلال ما ينشرنه من صور ومقاطع فيديو على تطبيق التواصل الاجتماعي. وحددت المحكمة 17 آب/أغسطس للنظر في طعن حكم الفتيات الخمس. كما طلب المحقق من الفتيات توقيع "كشف العذرية" عليهن.
يشار إلى أنه بين إبريل/نيسان ويوليو/حزيران 2020، ألقت قوات الأمن المصرية، القبض على حوالي ثماني نساء قدمن محتوى مصورًا عبر تطبيق "تيك توك"، وأمرت النيابة العامة بحبس معظمهن على ذمة اتهامات تتعلق بخدش الحياء العام، التحريض على الفسق والفجور، والتعدي على القيم والمبادئ الأسرية".
ودأب الإعلام والصحافة المصرية على نشر صور المتهمات مع جميع الأخبار المتعلقة بهن. وهناك نوع آخر من الصحافة، أبلغ عن فتيات بعينهن، كما فعل موقع "الدستور" بنشر قصة عن "فتاة تيك توك جديدة"، متسائلًا "أين النيابة العامة من مساءلتها"، وقد ألقي القبض عليها لاحقًا بالفعل.
في المقابل، وعلى الرغم من تعدد روايات الضحايا وانتشار قصصهنّ، فإنّ أغلب وسائل الصحافة والإعلام في مصر لم تنشر صور أحمد بسام زكي، المتهم باغتصاب عشرات الفتيات وابتزازهنّ، بينهنّ قصر. بل يتم طمس صورته أو إخفاء عينيه، أو الاكتفاء بنشر صورة تعبيرية عن الجريمة مع محتوى الخبر.
ويشار إلى أنه لا يوجد قانون في مصر يمنع نشر صور المتهمين، إنما الأمر متروك لتعليمات النائب العام. لكن القانون ينص على أن الصحف ملزمة في حالة نشرها حكما ابتدائيًا أو استئنافيًا بالصورة أو بدونها؛ أن تنشر نفس الحكم إذا تغير في النقض. لكن بعضهم يعارض مبدأ نشر الصور، ما دام لم يصدر حكمًا نهائيًا على المتهمين، إعمالًا للقاعدة القانونية التي تنص على أن "المتهم بريء حتى تثبت إدانته"، وأن نشر صورة المتهم في الصحف يعتبر عقوبة إضافية، ذات مردود عكسي.
ويبقى الاستثناء الوحيد في القانون الذي يحظر نشر صور المتهمين، في المادة رقم 116 في قانون الطفل المصري رقم 12 لسنة 1996، والتي تنص على "يعاقب بغرامة لا تقل عن عشرة آلاف جنيه ولا تتجاوز خمسين ألف جنيه كل من نشر أو أذاع في أحد أجهزة الإعلام أي معلومات أو بيانات، أو أي رسوم أو صور تتعلق بهوية الطفل حال عرض أمره على الجهات المعنية بالأطفال –أقل من 18 عامًا- المعرضين للخطر أو المخالفين للقانون".
ومع ذلك، فقد تم نشر صور المتهمة منة عبد العزيز (17 عامًا)، الشهيرة بـ"آية" وهي إحدى فتيات "تيك توك" أيضًا والتي تعرضت للاغتصاب وتم تصويرها عارية، وأمر النائب العام المصري، استبدال الحبس الاحتياطي لها بأحد التدابير المنصوص عليها بالمادة 201 من قانون الإجراءات الجنائية كبديلٍ، وهو إلزامها بعدم مبارحة أحد مراكز الاستضافة المحددة بمشروع وزارة التضامن الاجتماعي".
ساهم الإعلام في إرساء صورة سلبية عن فتيات تيك توك
حالة التمييز الثانية، كانت في صورة نشر نص التحقيقات مع المتهمات أمام النيابة، بالمخالفة للقانون، والحرص على الحصول على تصريحات من أهاليهن ومحاميهن. في حين أن القضايا المتهم فيها ذكور، لا يتطرق الإعلام لها، ولا يعرف أحد أسماء المحامين المدافعين عنهم، ولا ما تم في التحقيقات ولا أقوالهم أمام النيابة، ولا حتى في جلسات محاكمتهم. وفي هذا مثال صارخ أيضًا، بنشر نص التحقيقات مع المتهمة المشهورة بـ"شيري هانم" وابنتها، في التحقيقات أمام النيابة، وكذلك الراقصة سما المصري، وبعض فتيات "تيك توك"، وذلك على الرغم من أن القاعدة القانونية في مصر تنص على "سرية التحقيقات الابتدائية، وعلانية المحاكمات"؛ إذ ابتغى المشرع من مبدأ سرية التحقيقات الابتدائية في نصوص قانون الإجراءات الجنائية ضمان سير التحقيق في مجراه الطبيعي، وعدم المساس بمصالح الأفراد بغير مقتضى. واعتبار إجراءات التحقيق ذاتها والنتائج التي تسفر عنها من الأسرار، وذلك وفقاً لما جاءت به المذكرة الإيضاحية للقانون.
وأرسى قانون الإجراءات الجنائية المصري، في مادته رقم (75)، قاعدة سرية التحقيقات الابتدائية، ونص على "اعتبار إجراءات التحقيق ذاتها والنتائج التي تسفر عنها من الأسرار. ويجب على قضاة التحقيق وأعضاء النيابة العامة ومساعديهم من كتاب وخبراء وغيرهم ممن يتصلون بالتحقيق أو يحضرونه بسبب وظيفتهم أو مهنتهم عدم إفشائها، ومن يخالف ذلك منهم يعاقب طبقاً للمادة 310 من قانون العقوبات". بينما أرسى القانون ذاته قاعدة علانية المحاكمات، حيث نصت المادة (268) منه على "يجب أن تكون الجلسة علنية، ويجوز للمحكمة مع ذلك مراعاة للنظام العام أو محافظة على الآداب، أن تأمر بسماع الدعوى كلها أو بعضها في جلسة سرية، أو تمنع فئات معينة من الحضور فيها".