"قلت لكم مرارا
إن الطوابير التي تمر..
في استعراض عيد الفطر والجلاء
(فتهتف النساء في النوافذ انبهارا)
لا تصنع انتصارا.
إن المدافع التي تصطفّ على الحدود، في الصحارى
لا تطلق النيران.. إلا حين تستدير للوراء.
إن الرصاصة التي ندفع فيها.. ثمن الكسرة والدواء:
لا تقتل الأعداء
لكنها تقتلنا.. إذا رفعنا صوتنا جهارا
تقتلنا، وتقتل الصغارا!".
خدعنا أمل دنقل (1940-1983)، بقصيدته تلك قبل أربع وأربعين سنة، فأسماها "تعليق على ما حدث"؛ لم يقل لنا إنها تعليق على ما سيأتي!
في أيلول/ سبتمبر 1970 قرأها شاعر "زرقاء اليمامة"، ربما للمرة الأولى، في معسكر الوحدات في الأردن؛ مُثخناً بجراح هزيمة مروعة قبل ثلاث سنوات على يد العسكر، الذين داسوا واستباحوا كل شيء باسم "ضرورات القضية" و"الاستعداد للمعركة"؛ فعذبوا وشردوا واختطفوا الآلاف في غيابات السجون التي برعوا في تشييدها وتفننوا في تزويدها بكل وسائل التعذيب، وقتلوا عشراتٍ إعداماً واغتيالاً وسحلاً.
فماذا تغير اليوم؟ لا شيء ربما سوى أن أبناء ذريته أضافوا إجراماً جديداً، فشملوا النساء والأطفال والشيوخ؛ وبدلاً من توزيع الجرائم على سنوات، فقد اختصرها الخلفاء في يوم وبضعة شهور.
حين فعلها الأولون، كتب أمل دنقل:
"قلت لكم في السنة البعيدة
عن خطر الجندي
عن قلبه الأعمى، وعن همّته القعيدة
يحرس من يمنحه راتبه الشهري
وزيّه الرسمي
ليرهب الخصوم بالجعجعة الجوفاء
والقعقعة الشديدة
لكنه.. إن يحن الموت..
فداء الوطن المقهور والعقيدة:
فرّ من الميدان
وحاصر السلطان
واغتصب الكرسي
وأعلن "الثورة" في المذياع والجريدة!".
وحين فعلها أبناء الذرية الفاسدة كتب معاصرو دنقل - أحدهم ينتمي إلى نفس محافظته - كلاماً منحطاً، وكلمات ركيكة في حضرة القاتل الأكبر؛ وتسابقوا وتباهوا بالزحف إلى مجالسه!
ولأنه أمل، ولأنه كتب "تعليقاً على ما سيأتي"؛ فقد حذّرنا من "الذرية اللعينة"، ومن تركهم لاغتصاب الكرسي؛ وقال لنا بعد استفاقة من "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة":
"قلت لكم كثيراً
إن كان لا بد من هذه الذرية اللعينة
فليسكنوا الخنادقَ الحصينة
(متخذين من مخافر الحدود.. دوُرا)
لو دخل الواحدُ منهم هذه المدينة:
يدخلها.. حسيرا
يلقى سلاحه.. على أبوابها الأمينة
لأنه.. لا يستقيم مَرَحُ الطفل..
وحكمة الأب الرزينة..
مع المُسَدسّ المدلّى من حزام الخصر..
في السوق..
وفى مجالس الشورى".
ماذا اختلف أيضاً خلال ستين عاماً من حكم العسكر؛ وتصفيق "المواطنات الشريفات" والغناء الكذوب، والمذياع العقور؛ في حضرة الذرية الفاسدة؟
حدث أن أمل دنقل رحل، وعاشت كلماته، فأثمرت "بنات السبعة الصبح"، و"حرائر المنصورة" وشعباً - غير "شعبهم" – سينجينا من نذير الشاعر الراحل؛ وهو يذيل صرخاته:
"قلت لكم..
لكنكم..
لم تسمعوا هذا العبث
ففاضت النار على المخيمات
وفاضت.. الجثث!
وفاضت الخوذات والمدرعات".
في 21 أيار/ مايو من كل عام؛ سنحتفي بأمل دنقل في ميدان التحرير، سنستعيده، فكلماتك أثمرت يا أمل جيلاً جديداً، هو القادم؛ و"الذرية اللعينة" ومن فوضهم؛ حتماً راحلون.
* كاتب مصري من أسرة العربي الجديد