28 يناير 2024
تصفيق للصفقة الصفيقة
لا أدري كم من الوقت يحتاجه صفير الاحتجاج على صفقة القرن ليعاود الشخير، غير أني على قناعةٍ بأن العرب لا يعترفون بعصر السرعة، إلا باتجاه الركض نحو الأسرّة فقط.
أرجّح أن الصفير لن يحتاج إلى ثلاثين عامًا هذه المرّة، على غرار ما احتاجه قرار تقسيم فلسطين العام 1948، ليخرج من يعضّ أصابع الندم على تلك "الفرصة الخرافية" التي فرّط بها العرب، حين رفضوا هذا القرار، وقابلوه بصرخات الاحتجاج والاستنكار (والصفير أيضًا)، ثم جاء الرئيس التونسي الراحل، الحبيب بورقيبة، في عقد الستينيات، ليعلن عن خسارتنا الفادحة من عدم استثمار فرصة التقسيم، غير أننا عاودنا صفير الاحتجاجات عليه. ولم يمض طويل وقت، حتى جاء من يقبل بفتات فلسطين، وبأدنى كثيرًا من قرار التقسيم، فصفّقنا له، واعتبرنا ما فعله "فتحًا مبينًا"، في رحلة "التحرير". لم نصفق آنذاك لصفقة التقسيم، غير أننا صفّقنا حتى كلّت يدانا لصفقة أوسلو، وعاودنا الشخير.
ولأن فلسطين تتكرّر، ليس على رأس كل قرن، فقد جاءت الصفقة "الصفيقة" مثل وجبة أميركية سريعة التحضير؛ لأن وقت ترامب لا يسمح بالإطالة، خصوصًا إذا تعلق الأمر بمصائر شعوب العالم الثالث، منتظرًا تصفيق الثناء والحمد على هذه "الهبّة" التي لا تختلف كثيرًا عن أكياس طحين "زيرو"، التي كانت تمنّ بها أميركا على اللاجئين الفلسطينيين عقب نكسة حزيران، وفي قناعتها أن سدّ ذرائع الجوع كفيلةٌ بسدّ ذرائع العودة إلى الوطن المسلوب، انطلاقًا من لغة المادة التي تأسّست عليها الدولة الأميركية ذاتها. ولهذا السبب، كانت رائحة المال تقطر من هذه الصفقة الجديدة، ليسيل عليها لعاب الشعبين المنكوبين بالأعباء المعيشية، والمعنيين أساسًا بصفقة القرن، الفلسطيني والأردني، حصرًا.
والحال أن ثمّة من صفّق من العرب مباشرة للصفقة هذه المرّة، على غرار سفراء الإمارات والبحرين وعُمان، بالنيابة عن أنظمتهم بالطبع. ولا أستبعد أنهم اعتبروا أنفسهم ممثلين للشعب الفلسطيني، وللعرب برمّتهم، بعد أن أفرد لهم ترامب صدر قاعة المتفرّجين على مسرحية العصر. فيما سارعت دول أخرى إلى التصفيق من بعيد، بعد أن استأذنت ترامب بالغياب مخافة الحرج، على اعتبار أنها تمثّل الثقل العربيّ، كمصر والسعودية، فجاء تصفيقها مغلّفًا بتصريحاتٍ مائعة، لكنها تبطن الثناء على صفقة القرن، وعلى جهود ترامب لقاء تعبه واهتمامه ببسط السلام في الشرق الأوسط، مع دعوة الفلسطينيين، تحديدًا، إلى اهتبال هذه الفرصة التاريخية قبل فوات الأوان.
يبقى التساؤل الماكر: هل كانت أميركا وإسرائيل جادتيْن حقًّا بصفقة القرن، والالتزام بها لو وافق الفلسطينيون عليها؟
في قناعتي إنها محض مسرحيّة، كما ذكرت، بدليل أن الطرفيْن يعلمان أن السلطة الفلسطينية سبق وأن أعلنت رفضها أهم بنود ما ورد في الصفقة، المتعلقة بيهودية الدولة وسيادة إسرائيل على القدس بشقّيها، غير أن المطلوب هو تكرار الصفقات، مع قضم حقوقٍ إضافية من الفلسطينيين في كل صفقة، على غرار الفرق بين صفقة التقسيم وصفقة أوسلو، وكذلك بين الأخيرة وصفقة القرن الحالية، وفي كل صفقةٍ سيوجّه اللوم إلى الفلسطينيين والعرب على تفريطهم بالصفقة القديمة، وسيكون ثمن التفريط عقابًا إضافيًّا قوامُه، بالطبع، حرمانهم من حقّ قديم كان متاحًا لهم، من قبيل عودة اللاجئين، مثلًا، أو تقاسم القدس، أو تخصيص جغرافياتٍ أوسع لدولتهم.
أما الواقع فيقول إن إسرائيل ما كانت لتقبل أي صفقةٍ من تلك الصفقات، حتى لو زعمت عكس ذلك، غير أنها، والحق يقال، خير من يستثمر الفتات، ليجعل منه صفقةً لا يرفضها غير الأغبياء.
ليكن رهانًا، إذن، كما أراده ترامب ونتنياهو، غير أنه رهانٌ ما يزال قائمًا على الفلسطيني الذي لا يقبل بالفتات، مهما عضّه الجوع، وأرهقته الرحلة، على الفلسطيني الذي يتساوى لديه قرار التقسيم وصفقة القرن. وفي المقابل، سيتعيّن على ترامب ونتنياهو وطغمة المصفّقين العرب أن يعضّوا أصابع أقدامهم، حين يلقي الفلسطيني صفقته الممتدّة من النهر إلى البحر.
ولأن فلسطين تتكرّر، ليس على رأس كل قرن، فقد جاءت الصفقة "الصفيقة" مثل وجبة أميركية سريعة التحضير؛ لأن وقت ترامب لا يسمح بالإطالة، خصوصًا إذا تعلق الأمر بمصائر شعوب العالم الثالث، منتظرًا تصفيق الثناء والحمد على هذه "الهبّة" التي لا تختلف كثيرًا عن أكياس طحين "زيرو"، التي كانت تمنّ بها أميركا على اللاجئين الفلسطينيين عقب نكسة حزيران، وفي قناعتها أن سدّ ذرائع الجوع كفيلةٌ بسدّ ذرائع العودة إلى الوطن المسلوب، انطلاقًا من لغة المادة التي تأسّست عليها الدولة الأميركية ذاتها. ولهذا السبب، كانت رائحة المال تقطر من هذه الصفقة الجديدة، ليسيل عليها لعاب الشعبين المنكوبين بالأعباء المعيشية، والمعنيين أساسًا بصفقة القرن، الفلسطيني والأردني، حصرًا.
والحال أن ثمّة من صفّق من العرب مباشرة للصفقة هذه المرّة، على غرار سفراء الإمارات والبحرين وعُمان، بالنيابة عن أنظمتهم بالطبع. ولا أستبعد أنهم اعتبروا أنفسهم ممثلين للشعب الفلسطيني، وللعرب برمّتهم، بعد أن أفرد لهم ترامب صدر قاعة المتفرّجين على مسرحية العصر. فيما سارعت دول أخرى إلى التصفيق من بعيد، بعد أن استأذنت ترامب بالغياب مخافة الحرج، على اعتبار أنها تمثّل الثقل العربيّ، كمصر والسعودية، فجاء تصفيقها مغلّفًا بتصريحاتٍ مائعة، لكنها تبطن الثناء على صفقة القرن، وعلى جهود ترامب لقاء تعبه واهتمامه ببسط السلام في الشرق الأوسط، مع دعوة الفلسطينيين، تحديدًا، إلى اهتبال هذه الفرصة التاريخية قبل فوات الأوان.
يبقى التساؤل الماكر: هل كانت أميركا وإسرائيل جادتيْن حقًّا بصفقة القرن، والالتزام بها لو وافق الفلسطينيون عليها؟
في قناعتي إنها محض مسرحيّة، كما ذكرت، بدليل أن الطرفيْن يعلمان أن السلطة الفلسطينية سبق وأن أعلنت رفضها أهم بنود ما ورد في الصفقة، المتعلقة بيهودية الدولة وسيادة إسرائيل على القدس بشقّيها، غير أن المطلوب هو تكرار الصفقات، مع قضم حقوقٍ إضافية من الفلسطينيين في كل صفقة، على غرار الفرق بين صفقة التقسيم وصفقة أوسلو، وكذلك بين الأخيرة وصفقة القرن الحالية، وفي كل صفقةٍ سيوجّه اللوم إلى الفلسطينيين والعرب على تفريطهم بالصفقة القديمة، وسيكون ثمن التفريط عقابًا إضافيًّا قوامُه، بالطبع، حرمانهم من حقّ قديم كان متاحًا لهم، من قبيل عودة اللاجئين، مثلًا، أو تقاسم القدس، أو تخصيص جغرافياتٍ أوسع لدولتهم.
أما الواقع فيقول إن إسرائيل ما كانت لتقبل أي صفقةٍ من تلك الصفقات، حتى لو زعمت عكس ذلك، غير أنها، والحق يقال، خير من يستثمر الفتات، ليجعل منه صفقةً لا يرفضها غير الأغبياء.
ليكن رهانًا، إذن، كما أراده ترامب ونتنياهو، غير أنه رهانٌ ما يزال قائمًا على الفلسطيني الذي لا يقبل بالفتات، مهما عضّه الجوع، وأرهقته الرحلة، على الفلسطيني الذي يتساوى لديه قرار التقسيم وصفقة القرن. وفي المقابل، سيتعيّن على ترامب ونتنياهو وطغمة المصفّقين العرب أن يعضّوا أصابع أقدامهم، حين يلقي الفلسطيني صفقته الممتدّة من النهر إلى البحر.