وفي السياق، أعلن أقارب المعتقل السياسي السابق، إبراهيم أبو سليمان، وجوده في مشرحة "زينهم" في القاهرة ضمن الـ40 جثة، علماً بأنّ أبو سليمان كان قد حصل على قرار إخلاء سبيل على ذمة قضية 831 ولم يفرج عنه هو والمعتقل السياسي أحمد يسري، الحاصل على قرار إخلاء سبيل ولم يفرج عنه أيضاً. ووجد أهل يسري جثة ابنهم كذلك ضمن الجثامين الموجودة في المشرحة. والجدير بالذكر أنّ الشابين كانا اختفيا بعد قرار إخلاء سبيلهما.
واستقبلت مشرحة "زينهم" بوسط القاهرة، قبل أيام، جثامين 45 مصرياً قتلوا أخيراً برصاص قوات الأمن في مدينة السادس من أكتوبر بالجيزة، ومحافظة شمال سيناء، وهو ما دفع رابطة أسر المختفين قسرياً، إلى مطالبة أعضائها بالتأكد من وجود أسماء ذويهم المختفين في كشوف المشرحة، خصوصاً أنّ إجمالي الذين جرت تصفيتهم بلغ 167 شخصاً منذ يونيو/ حزيران 2018، من بينهم 62 مواطناً قتلوا في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، وفقاً لبيانات وزارة الداخلية.
وعبر مواقع التواصل الاجتماعي، تداول حقوقيون وسياسيون مصريون نداءً، جاء فيه: "السادة أهالي المختفين قسرياً... رجاءً كل من لديه شخص مختف، ولم يستدل على مكانه حتى اللحظة، يتجه - كل في محافظته - إلى المستشفى الجامعي، حتى يتأكّد إن كان ذووه من ضمن جثامين الضحايا أم لا... وفي حالة عدم وجوده، يتجه إلى مشرحة زينهم حتى يتأكد هناك".
وغداة اعتداء إرهابي استهدف حافلة سيّاح في الجيزة أسفر عن مقتل أربعة أشخاص، بينهم ثلاثة فيتناميين، قبل أسبوع، أعلنت وزارة الداخلية مقتل 40 "إرهابياً" في عمليات دهْم لبعض "الأوكار" في توقيت متزامن بمحافظتي الجيزة وشمال سيناء، وهو سيناريو يتكرّر بعد كل اعتداء إرهابي، إذ اعتادت الشرطة المصرية خلال السنوات الأخيرة توصيف عمليات التصفية الجسدية للمعارضين بأنها "تتم في إطار تبادل إطلاق النار". وبحسب حديث خبراء مع "العربي الجديد"، فإنّ أغلب الصور المرسلة مع بيانات وزارة الداخلية الخاصة بوقائع التصفية، تظهر بوضوح قتل الضحايا من مسافات قريبة بطلقات مباشرة في الرأس والصدر، أو في الظهر، علاوة على عدم إعلان إصابة أي فرد من الشرطة خلال المداهمات "المزعومة" منذ وقوع الانقلاب العسكري عام 2013، وهو ما يؤكد زيف الرواية الأمنية بشأن حدوث تبادل لإطلاق النار، وأنها عمليات "قتل جماعي".
وتصل عشرات الشكاوى يومياً إلى المنظمات الحقوقية، ومنها "المجلس القومي لحقوق الإنسان" (حكومي)، بشأن تعرّض مواطنين للإخفاء القسري من قبل الأمن، وعدم توصّل ذويهم إلى أماكن احتجازهم رغم مرور سنوات على الإخفاء في بعض الحالات. وهي الظاهرة التي استفحلت مع تولي وزير الداخلية السابق، مجدي عبد الغفار منصبه في مارس/ آذار 2015، ومن بعده الوزير الحالي محمود توفيق، وكلاهما كان مسؤولاً عن قطاع الأمن الوطني، المتهم الرئيس في ارتكاب جرائم الإخفاء القسري.
وتقول مصادر أمنية مطلعة لـ"العربي الجديد"، إنّ تصفية "الإرهابيين" تحظى برضا الرئيس عبد الفتاح السيسي، حين تطاول البلاد أعمال إرهابية، موضحةً أنه يطلب بشكل مباشر من الوزير سرعة "القصاص" عقب وقوع أي حادث إرهابي، وهو ما يفسّر إعلان وزارة الداخلية تصفية أعداد كبيرة من المواطنين عقب ساعات قليلة من حدوث أي عمل إرهابي أو اعتداء على الكنائس. ووثّقت منظمات حقوقية محلية ودولية تعرّض الكثير من المصريين للإخفاء القسري، والاحتجاز سراً بدون إقرار رسمي، بذريعة أنهم من المتهمين في جرائم الإرهاب، فضلاً عن توثيق تعرّضهم للمعاملة السيئة والتعذيب، من جانب ضباط وأفراد في أجهزة الشرطة والأمن الوطني والاستخبارات العسكرية، لانتزاع اعترافات عن أعمال لم يرتكبوها، ومن ثمّ إحالة المعترفين منهم للتحقيق أمام نيابة أمن الدولة، مع استمرار إخفاء غير المعترفين.
استهداف الحقوقيين
في سبتمبر/ أيلول الماضي، وثّق التقرير السنوي الصادر عن الفريق الأممي المعني بحالات الإخفاء القسري، استمرار جرائم الإخفاء القسري في مصر، موضحاً أنها تتم بشكل ممنهج بحق العديد من المواطنين، فضلاً عن استهداف الناشطين الحقوقيين الذين يعملون على توثيق هذه الجريمة، مشيراً إلى عمل الفريق على 173 قضية إخفاء قسري في مصر، بينما لم يتم البت في 285 حالة أخرى ما زالت قيد النظر.
وفي السياق، دان الفريق الأممي اعتقال رئيس رابطة المختفين قسرياً، إبراهيم متولي، بمطار القاهرة في 3 أكتوبر/ تشرين الأول 2017، وهو في طريقه إلى اجتماع مع الفريق في جنيف، معتبراً أنّ التهم الموجهة إليه تشير إلى عمل انتقامي ضده بسبب تعاونه مع إحدى آليات الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، وكذلك إلى عرقلة متعمدة لنشاطه المشروع في مجال حقوق الإنسان، للسعي إلى معرفة مصير ومكان وجود نجله، وغيره من الأشخاص المختفين في مصر.
وسبق لمتولي أن أعدّ ملفاً كاملاً عن قضية "الإخفاء القسري" في مصر، لعرضه على مجموعة عمل دولية تناقش القضية، غير أنه اقتيد من المطار إلى مقرّ جهاز الأمن الوطني، وحُرم من الاتصال بذويه أو محاميه، كما جُرّد من جميع ملابسه، وصعق بالكهرباء في أماكن متفرقة في الجسد (مفاصل اليد والصدر والخصيتان)، فضلاً عن سكب مياه باردة على جسده، وصعقه مجدداً، وتصويره من دون ملابس، حسب رواية أسرته.
محاكمات جائرة
ويخضع 17 معتقلاً من "رابطة أسر المختفين قسرياً" للمحاكمة أمام محكمة جنايات القاهرة في القضية رقم 900 لسنة 2017 حصر أمن دولة، بحجة انضمامهم إلى الرابطة وترويجهم أخباراً عن انتشار ظاهرة الإخفاء القسري في مصر، والتواصل مع منظمات أجنبية بغرض الإضرار بالأمن القومي المصري، وترويج "شائعات" من شأنها الإضرار بالمركز السياسي للدولة المصرية.
ووثّقت "المنظمة العربية لحقوق الإنسان" (مؤسسة حقوقية دولية) نحو 157 حالة تصفية جسدية لمواطنين خارج إطار القانون، خلال الفترة من يوليو/ تموز 2013 وحتى يوليو/ تموز 2017. ويجمع بين تلك الحالات اختلاق روايات وهمية حول مقتلهم تحت دعوى تورطهم في مواجهات مع قوات الأمن. بدوره، وثّق مركز "دفتر أحوال" البحثي المستقلّ في مجال العلوم الاجتماعية، 21 واقعة تصفية جسدية من قبل قوات الأمن النظامية المصرية، أسفرت عن مقتل 45 شخصاً.
5500 مختف
من جهته، كشف فريق منظمة "كوميتي فور جستس" الحقوقية الدولية، نحو 1989 حالة إخفاء قسري في مصر، في الفترة الزمنية بين أغسطس/ آب 2017 وأغسطس/ آب 2018، فيما وثّق "مركز الشهاب لحقوق الإنسان" (منظمة غير حكومية في القاهرة) نحو 5500 حالة إخفاء قسري في مصر، خلال الفترة من يوليو/ تموز 2013 وحتى أغسطس/ آب 2017، منها 44 مختفياً قسرياً تم قتلهم خارج نطاق القانون.
كذلك أصدرت حملة "أوقفوا الاختفاء القسري" التي أطلقتها "المفوضية المصرية للحقوق والحريات" (منظمة مجتمع مدني مصرية)، في اليوم الدولي لضحايا الإخفاء القسري لعام 2015، تقارير عدة وثّقت إجمالي 1520 حالة إخفاء قسري في مصر، خلال الفترة الممتدة من 30 يونيو/ حزيران 2013 وحتى 1 أغسطس/ آب 2018، مؤكدة تعرّض العشرات من المختفين قسرياً للقتل خارج إطار القانون.
الإخفاء مرتين
وفي نهاية أغسطس/ آب الماضي، وثّق التقرير السنوي الثالث للحملة ذاتها (أوقفوا الاختفاء القسري) 230 حالة إخفاء قسري جديدة في مصر خلال 12 شهراً، شملت صحافيين، ومدافعين عن حقوق الإنسان، ونشطاء، لافتاً إلى ظهور عدد منهم لاحقاً أمام نيابة أمن الدولة على ذمّة قضايا ملفقة، بعد تعرّضهم للتعذيب أثناء الاحتجاز، ومن ثمّ حبسهم احتياطياً لمدد طويلة كنوع من أنواع الاعتقال، فيما تعرّض أصحاب 8 حالات للإخفاء مجدداً أثناء تنفيذ إجراءات إخلاء سبيلهم.
ولا يستثني الاختفاء القسري في مصر أحداً. فقد تعرّضت 259 سيدة لهذه الجريمة في 2018، حسبما أعلنت حملة "نساء ضد الانقلاب" المصرية. وتعدّ البيانات الإعلامية التي تصدرها وزارتا الدفاع والداخلية، سواء المكتوبة أو المصورة، مصدراً مهماً لعائلات ضحايا الإخفاء القسري لمعرفة مصير ذويهم، إذ يظهر فيها بعض المختفين في مقاطع تبثها تلك البيانات الأمنية، على غرار ما كشفه أخيراً عضو "المجلس القومي لحقوق الإنسان" السابق، أسامة رشدي، بشأن بيان وزارة الداخلية عن تصفية 8 معارضين شباب، والصادر في 20 ديسمبر/كانون الأول الفائت. ونشر رشدي عبر حسابه على موقع "تويتر" أنّ منظمة "نجدة لحقوق الإنسان" وثّقت اختفاء اثنين من أربعة أشخاص قالت الداخلية إنها اعتقلتهما أثناء المداهمات، الأول يدعى محمد جمال محمد علي، موظف بوزارة الصحة، ومختف قسرياً من محافظة الشرقية منذ 11 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، والثاني هو عمرو أيمن محمد علي الدين، الذي قبض عليه تعسفياً في 1 نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، أثناء عودته من عمله في القاهرة إلى منزله بمدينة المحلة الكبرى.
حادثة ريجيني
ولعل حادثة مقتل الطالب الإيطالي جوليو ريجيني، الذي اختفى في الذكرى الخامسة للثورة المصرية، وعثر عليه ميتاً على قارعة الطريق، وعلى جسده آثار تعذيب، في فبراير/ شباط 2016، مثال جلي على انتشار ظاهرة القتل خارج القانون، خصوصاً أنّ "منظمة العفو الدولية" خلصت إلى وجود "تطابق واضح" بين إصاباته، وإصابات مصريين ماتوا داخل أماكن الاحتجاز، برغم استمرار نفي السلطات المصرية ضلوعها في قتله.
وسارع الأمن المصري حينها إلى تصفية خمسة مواطنين، بدعوى أنهم أعضاء في تشكيل عصابي تخصص في انتحال صفة ضباط شرطة، واختطاف الأجانب، ولهم علاقة بمقتل ريجيني. غير أنّ تضارب الروايات الحكومية، وفشل الوفد المصري، الذي كان قد سافر إلى روما، في إقناع الجانب الإيطالي بصحة الرواية، وضع الحكومة المصرية في حرج بالغ، خصوصاً أنه تبيّن لاحقاً أنهم عمال بسطاء، كانوا في طريقهم للاتفاق على تشطيب إحدى البنايات السكنية بحي التجمع الخامس شرق القاهرة.
اختفاء النجار
سبق أن طالبت تسع منظمات حقوقية مصرية السلطات المصرية بالإفصاح عن مكان ومصير النائب السابق مصطفى النجار، الذي تشير المعلومات المتوفرة إلى انقطاع الاتصال به منذ عصر يوم الجمعة في 28 سبتمبر/ أيلول 2018، وهو في محافظة أسوان، مطالبة السلطات المصرية بسرعة إجلاء مصيره، والكشف عن مكانه، بعد أن حملتها المسؤولية الكاملة عن حياته وسلامته. والنجار هو طبيب أسنان، وأحد الناشطين البارزين في أحداث ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011. وفي يوم 10 أكتوبر/ تشرين الأول 2018، تلقت زوجته مكالمة هاتفية من شخص مجهول على خط المنزل الأرضي، يفيد بأنه قد تم إلقاء القبض عليه. وبعد تلقيها المكاملة سارعت بتقديم بلاغ للنائب العام تلغرافياً بخصوص اختفائه، كما قدّم محامو النجار بلاغاً لنيابة أسوان في 31 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
عالية مضر
تعدّ عالية مضر أصغر مواطنة مصرية تعرضت للاختفاء القسري في مصر خلال عام 2018، إذ كانت تبلغ من العمر عاماً واحداً عندما اختفت قسرياً مع والدتها ووالدها وخالها في 24 مارس/ آذار 2018، حيث كانوا في محطة القطار في الجيزة في طريقهم لأسيوط. وبعد 8 أيام من الاختفاء، ظهرت عالية مع ذويها في نيابة أمن الدولة.
وفي 4 إبريل/ نيسان 2018، أصدر آل مضر بياناً أكدوا فيه أنّ إدارة سجن القناطر سلّمت إليهم الطفلة عالية بناء على طلب والدتها، فيما لا تزال الوالدة والوالد والخال في السجن حتى اليوم. وبدأت ظاهرة الاختفاء القسري في مصر بشكل ممنهج في أواخر تسعينيات القرن الماضي. لكن نطاق هذه الجريمة، اتسع عقب الانقلاب العسكري في مصر في 3 يوليو/ تموز 2013، وتحديداً بالتزامن مع فضّ اعتصامي رابعة العدوية والنهضة، الذي أحدث مذبحة بشرية، وترك وراءه المئات من الذين وقعوا ضحايا القبض العشوائي والاختفاء في أماكن احتجاز سرية.
لكن حسب "منظمة القاهرة لحقوق الإنسان" (منظمة مجتمع مدني مصرية تعمل من فرنسا نظرًا للأوضاع الأمنية الخانقة لحقوق الإنسان في مصر)، بدأت ظاهرة الاختفاء القسري، تتصاعد بشكل كبير في مصر منذ الربع اﻷخير من يونيو/ حزيران 2013، والعديد من حالاتها تتعلق بقضايا سياسية وقضايا رأي. وغالباً، ما يتعرض اﻷشخاص المختفون لصور مختلفة من التعذيب والضغوط للحصول منهم على اعترافات أو معلومات تستخدم ضدهم أو ضدّ آخرين في المحاكمات الجنائية.
ثم توسّعت الدولة وأجهزتها الأمنية – الأمن الوطني والاستخبارات الحربية – في استخدام استراتيجية الإخفاء القسري خلال عام 2015 ليس فقط ضدّ المعارضين والمحسوبين على التيارات الدينية والسياسية، بل شمل ذلك أيضاً مواطنين غير منخرطين بالعمل العام، بمن فيهم الأطفال وكبار السن، ومنهم يظهر ويجد نفسه متورط بتهم وقضايا مختلفة. أما من لا يظهر، فتزداد احتمالات موته تحت وطأة التعذيب واختفاء جثته، بادعاء أنها حالة انتحار أو تفجير، فيما يختفي آخرون للأبد ويبقى مصيرهم مجهولاً، تماما كمصير أبناء "أمهات ميدان مايو" بالأرجنتين، في سبعينيات القرن الماضي.
ويعتبر الاختفاء القسري جريمة لا تسقط بالتقادم وفقاً للاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري التي تم اعتمادها من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة في ديسمبر/ كانون الأول 2010، والتي عرّفت الاختفاء القسري بأنه "الاعتقال أو الاحتجاز أو الاختطاف أو أي شكل من أشكال الحرمان من الحرية يتم على أيدي موظفي الدولة، أو أشخاص أو مجموعات من الأفراد يتصرفون بإذن أو دعم من الدولة أو بموافقتها، ويعقبه رفض الاعتراف بحرمان الشخص من حريته أو إخفاء مصير الشخص المختفي أو مكان وجوده، مما يحرمه من حماية القانون".