"تشيرنوبيل".. تردّد ذكرها كثيراً خلال العقود الثلاثة الماضية، من دون أن يدرك البعض حقيقة هذه الكارثة التي هزّت العالم. ربما يكفي أن نعرف أنها تسببت بأضخم تلوّث إشعاعي خلال القرن الماضي.
قبل 30 عاماً، وقعت أكبر كارثة نووية وتكنولوجية في العالم أسفرت عن انبعاث 190 طناً من المواد المشعة، بما فيها نظائر البلوتونيوم-239 (فترة عمر النصف تزيد عن 24 ألف عام). في مثل هذا اليوم 26 أبريل/نيسان 1986، كان انفجار محطة تشيرنوبيل النووية في جمهورية أوكرانيا السوفييتية. وقد تسببت الكارثة في تهجير أكثر من 100 ألف شخص من المدن والبلدات المحيطة، على خلفية التلوّث الإشعاعي الذي قُدّر بأنه أكبر بمئات الأضعاف بالمقارنة مع الهجوم النووي على مدينتَي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين (أغسطس/ آب 1945) في أواخر الحرب العالمية الثانية.
عند الساعة 01:23 بالتوقيت المحلي، وقعت الكارثة خلال اختبار. أدّى ارتفاع عرضي للقوة في مفاعل الوحدة الرابعة في المحطة إلى الانفجار وتدمير المفاعل بالكامل واندلاع حريق ضخم، أسفر عن تشكّل سحابة إشعاعية حملت مواد مشعّة إلى مختلف أنحاء الاتحاد السوفييتي وأوروبا.
الجمهوريات السوفييتية آنذاك، روسيا وأوكرانيا وخصوصاً بيلاروسيا، كان لها النصيب الأكبر من التلوّث الإشعاعي، إلا أنّ البلدان الأوروبية لم تسلم منه أيضاً، بسبب العواصف التي دفعت بالنظائر المشعة والغيوم غرباً، مروراً ببلدان وسط أوروبا ووصولاً إلى اسكندينافيا وأيرلندا.
أسفر الانفجار بداية، عن مقتل شخصين على الفور، بينما لفظ نحو 30 من موظفي المحطة وأفراد الإغاثة أنفاسهم الأخيرة خلال الأشهر التالية من جرّاء إصاباتهم بحروق أو بتسمّم إشعاعي. إلى ذلك، سُجّلت أكثر من 100 حالة متفاوتة الخطورة لمتلازمة الإشعاع الحادة. بحسب بيانات منظمة الصحة العالمية، كان الأشخاص الذين عملوا في منطقة الحادثة أكثر عرضة من غيرهم للإصابة بسرطان الدم، في حين ازداد عدد الإصابات بسرطان الغدة الدرقية بين أولئك الذين كانوا أطفالاً عند وقوع الكارثة.
تجدر الإشارة إلى أنّ أعمال التخلص مما جرّته الحادثة استمرّت بضع سنوات، وقد شارك فيها نحو 800 ألف شخص جنّبوا القارة كارثة بيئية أكبر. ولعلّ أبرز هذه الأعمال كانت عزل المفاعل عن طريق بناء غطاء مؤلف من نحو 400 ألف متر مكعب من الخرسانة وأكثر من سبعة آلاف طن من الحديد.
يتحدّث المهندس والمصمم فياتشيسلاف تولسكيخ الذي عمل في المحطة في عامَي 1986 و1987، عن الوضع بعيد الانفجار، موضحاً أنّ حدّة التلوّث الإشعاعي لم تكن تسمح بعمل البشر داخلها، لذلك لم يكن من حلّ سوى استخدام الروبوتات المجهّزة بكاميرات. يقول تولسكيخ لـ"العربي الجديد" إنّ مستوى التلوّث الإشعاعي كان يسبب "عمى وجنوناً لدى الروبوتات" لعدم اختبارها في مثل هذه الظروف من قبل. ويشرح أنّ "أشعة غاما كانت تؤدي إلى تكوين طبقة معدنية على عدسات الكاميرات، وراحت الروبوتات تخرج عن السيطرة وقد وصل بها الأمر إلى القفز إلى داخل المفاعل". يضيف الخبير الذي عمل في صيانة الروبوتات وشارك في تصميمها، أنها "كانت تعمل بشكل طبيعي في المعمل، لكنها كانت تتعطل بعد دقائق معدودة من العمل داخل المحطة. لذا، اضطررنا إلى تطويرها في موقع الحادثة حتى تتحمل مستويات إشعاعية أكبر".
على الرغم من قسوة ظروف العمل في تشيرنوبيل، إلا أنّ تولسكيخ يعتزّ بما يحمل من ذكريات حول هذه الفترة وهو ما زال يحتفظ حتى اليوم بصور له داخل المحطة بالإضافة إلى بطاقة الدخول الخاصة به. ويشير إلى أنه ما زال يذكر "شجرة صنوبر ضخمة كانت منتصبة في جوار المحطة وقد نجت من التلوّث، لتصبح رمزاً لصمود أولئك الذين عملوا على التخلص مما جرّته الحادثة".
أسباب ودروس
بعد وقوع الكارثة، تضاربت الروايات حول أسبابها. في البداية ألقيت مسؤولية ما جرى على العاملين في المحطة، إلا أنّ تبرئتهم أتت في وقت لاحق، عندما توصّل المعنيون إلى خلاصة مفادها أن العيوب الفنية في بنية المفاعل هي التي أدت إلى مسار الأحداث هذا.
يرى مدير معهد قضايا التطوير الآمن للطاقة النووية التابع لأكاديمية العلوم الروسية، ليونيد بولشوف، أنّ كارثة تشيرنوبيل نجمت عن مجموعة متكاملة من الأسباب، بعضها مباشر وبعضها الآخر غير مباشر. يقول في حديث إلى "العربي الجديد" أنّ "الأسباب المباشرة هي أخطاء المشغلين الذين أوصلوا المفاعل إلى هذه المرحلة، وعلماء الفيزياء لعدم إجرائهم الحسابات اللازمة لعمل المفاعل في الحالات الطارئة، والمصممين أيضاً إذ أدّى العيب في المفاعل إلى تبخّر المياه بسرعة ليبقى من دون تبريد".
أما "الأسباب الأعمق"، فيراها بولشوف على الشكل الآتي: "بعد النجاحات في إنتاج الأسلحة النووية وتأسيس أسطول الغواصات النووية وبدء استخدام الطاقة الذرية، بات الشعور بأنّ البشر تمكنوا تماماً من هذا المجال. وتَقرر على سبيل المثال، وضع كل المحطات النووية تقريباً تحت إدارة وزارة الطاقة بدلاً من وزارة الطاقة الذرية في الاتحاد السوفييتي". ويشدّد على أنه في حال بقيت المحطات النووية تحت مظلة وزارة الطاقة الذرية التي كانت تتميز بالالتزام التام في عملها، لما كانت وقعت مثل هذه الأخطاء، مشيراً إلى ضرورة التعامل مع الطاقة النووية بـ"احترام".
على الرغم من أنّ كارثة تشيرنوبيل أثارت تساؤلات حول أمان الطاقة الذرية ودفعت بعض الدول إلى تعليق برامجها النووية في حين عدلت دول أخرى عن إنشاء محطات جديدة، إلا أنه بعد انقضاء 30 عاماً وبعد استخلاص دروس الحادثة، يطمح عدد متزايد من الدول إلى استخدام الطاقة الذرية لتوليد الطاقة.
أخطاء عديدة تداركها المعنيون في الأجيال الجديدة من المفاعلات. ويقول بولشوف في هذا الإطار: "في أعقاب كارثة تشيرنوبيل، وضعت معايير جديدة للأمان تأخذ بعين الاعتبار احتمال وقوع أعطال". يضيف: "بعد حادثة محطة فوكوشيما اليابانية في عام 2011، اتضح أنه لا بدّ من توفير تبريد خارجي للمفاعلات. كذلك، يعملون اليوم على تصميم مفاعلات الدورة المغلقة من الجيل الجديد، التي سوف تعمل بلا نفايات نووية". ويستبعد احتمال استغناء البشرية عن الطاقة النووية والاعتماد على مصادر الطاقة التقليدية، موضحاً أنّ "المحطات الكهروحرارية تتسبب في ظاهرة الاحتباس الحراري نتيجة للانبعاثات الصادرة عنها، بينما تُعدّ المحطات النووية أنظف بيئياً، لأنها عديمة الانبعاثات ونفاياتها قليلة جداً".
إلى ذلك، يؤكد أنّ "عدداً من دول آسيا وأفريقيا تسعى على المستوى الاقتصادي، إلى إنشاء محطات نووية لتحقيق نقلة تكنولوجية"، مضيفاً أنّ "تحقيق مثل هذه المشاريع يسمح بالارتقاء إلى مستوى العلوم والتعليم على نحو كيفي، ودخول عصر اقتصاد المعرفة".
وعند سؤاله عن آفاق زيادة حصة مصادر الطاقة البديلة مثل الرياح والطاقة الشمسية، يجيب بولشوف أنّ ذلك مكلف جداً ولا تستطيع دعمه إلا قوى اقتصادية كبرى مثل ألمانيا، لافتاً إلى أنّ الدنمارك من الدول الرائدة في مجال استخدام طاقة الرياح.
ذاكرة لا تمحى
أسفرت كارثة تشيرنوبل عن تلوّث المنطقة المحيطة بالمحطة بواسطة النظائر المشعة، وهو الأمر الذي دفع بالسلطات السوفييتية إلى فرض "منطقة محظورة" امتدت على 30 كيلومتراً حول المحطة في أوكرانيا وبيلاروسيا. يُذكر أنّ المحطّة تقع على الحدود بين الجمهوريتين السوفييتيتين السابقتين.
بعد تقييم نطاق الكارثة، كان إجلاء للسكان خلال الأيام الأولى من المناطق الأقرب، من بينها مدينة بريبيات الواقعة على بعد كيلومترين اثنين فقط من المحطة والبالغ عدد سكانها 55 ألف نسمة. ويذكر أهالي المدينة أنّ في 27 أبريل/ نيسان 1986، وصلهم إعلان عبر بثّ إذاعي وآخر في الشوارع حول "إجلاء مؤقت" لسكان بريبيات نظراً لـ"الوضع الإشعاعي غير المؤاتي". وعند الساعة الثانية من بعد ظهر اليوم نفسه، بدأت الحافلات بإجلائهم من أمام مداخل منازلهم. لم يكن يتصوّر هؤلاء في ذلك اليوم أنهم يغادرون بيوتهم من دون رجعة.
ألكسندر سيروتا من هؤلاء الذين تركوا بريبيات في عملية الإجلاء تلك. في ذلك الحين، كان طفلاً في التاسعة من عمره. بعدما استقرّ به الحال في العاصمة الأوكرانية كييف، يرى أنّ مهمته الآن تقضي بالحفاظ على ذكرى المدينة وتعريف العالم عليها. في إطار إشرافه على مشروع "بريبيات.كوم"، ينظم سيروتا زيارات للباحثين والصحافيين إلى "المنطقة المحظورة". يقول في اتصال مع "العربي الجديد" من مدينة تشيرنوبيل حيث يعمل حالياً: "ما زلت أعتبر بريبيات مدينتي. لم يتغيّر أي شيء بالنسبة إليّ، باستثناء انتشار النباتات بشكل عشوائي"، مشيراً إلى أن "بعد الكارثة، قضيت فيها وقتاً أطول من ذي قبل".
يخبر سيروتا أنّ بريبيات خالية تماماً من السكان اليوم، لكن ثمّة منشآت قليلة ما زالت تعمل فيها، ويُنقل الموظفون إليها يومياً من مدينة تشيرنوبيل الواقعة على بعد 18 كيلومتراً من المحطة التي تحمل الاسم نفسه.
عن أمان مثل تلك الزيارات التي ينظمها إلى المنطقة المنكوبة، يقول سيروتا أنّ المخاطر لا تقتصر على التلوّث الإشعاعي فحسب. ويذكر انتشار الحيوانات البرية وخطر انهيار المباني التي لم تخضع لأي صيانة منذ 30 عاماً. يضيف أنّ "الزيارات غير مسموح بها إلا للأشخاص البالغين وبعد تعريفهم على المخاطر. ومن أجل الحدّ منها، لا بدّ من الالتزام التام بتعليمات الأمان". وتشمل هذه التعليمات التي يوضحها موقع منظمي الزيارات، عدم دخول أي مبان، والامتناع عن تناول المأكولات والمشروبات وكذلك التدخين إلا داخل الحافلات أو الأماكن المخصصة لذلك، بالإضافة إلى ارتداء ملابس تغطي كل أجزاء الجسم وغيرها. تجدر الإشارة إلى أنّ دخول "المنطقة المحظورة" غير ممكن إلا لمن يحصل على تصريح رسمي ويوقّع على إقرار رسمي بتحمله مسؤولية المخاطر المتعلقة بالزيارة.
منذ وقوع الكارثة، انتشرت شائعات كثيرة، من بينها ظهور حيوانات مشوّهة برأسين، فيما أصبحت موضوعاً لعديد من الكتب والأفلام وحتى للعبة الفيديو "ستالكر".
ثمّة حقيقة يصعب تخيلها، وهي أنّ الوحدات السليمة الثلاث في المحطة، سرعان ما شُغّلت من جديد، لتستمر في توليد الطاقة حتى عام 2000. ومن المتوقع أن تستمر عملية حفظ المفاعلات حتى عام 2028. أما التفكيك النهائي للمعدات، فلن يتمّ إلا بعد انخفاض مستوى الأشعة بحلول عام 2065، وهو أمر يجعل مسألة نقل خبرات التعامل مع المحطة للأجيال الجديدة من خبراء الطاقة النووية، مهمة ملحة.