لا تتوقف الأدلة التي تؤكد إجرام الجيش الإسرائيلي عن الظهور، وآخرها جاء في فيلم وثائقي يكشف جرائم هذا الجيش خلال حرب يونيو/حزيران 1967. فبعد ثمانية وأربعين عاماً على هذه الحرب، وإصدار كتاب "حديث المحاربين" الذي تفاخرت فيه إسرائيل بأخلاقية الجنود الذين أعربوا عن آرائهم المناهضة للحرب ولكراهية العرب كعرب، مع سرد بطولات الحرب، يتضح أن هذا الكتاب شكّل جزءاً بسيطاً من شهادات جنود إسرائيليين جُمعت في عشرات بكرات التصوير والتسجيلات المحظورة، التي منعتها الرقابة العسكرية الإسرائيلية؛ لأنها فضحت ببساطة جرائم حرب إسرائيلية، من إطلاق النار على المدنيين، إلى قتل الأسرى وترحيل وطرد الفلسطينيين مجدداً واقتلاعهم من أراضيهم، ودفعهم للنزوح إلى الشرق.
وتسنّى فضح البكرات المحظورة والحوارات التي منعتها الرقابة العسكرية بفضل فيلم وثائقي أخرجته مور لوشي، بعد سنوات من المحاولات للوصول إلى أصول الفيلم، وبكرات التسجيل الأولى والأصلية التي أخفاها الأديب الإسرائيلي عاموس عوز (ساعد في تحرير كتاب "حديث المحاربين" الذي جمعه المؤرخ أبراهام شابيرا) بعد أن حظرتها الرقابة العسكرية.
وإضافة إلى الجرائم التي يكشف عنها الفيلم الوثائقي الآن، يتضح منذ البداية بحسب ما يقوله عاموس عوز لصحيفة "هآرتس"، وخلافاً للجو العام الذي ساد إسرائيل بعد الحرب، من النشوة والانتصار على العرب، أن حالة الجنود، الذين تحدثوا لعوز على مر عشرات الجلسات في مختلف الكيبوتسات (المستوطنات)، لم تشِ بحالة النصر بقدر ما يتضح أنها وثّقت حالة من صدمات الحرب والهزة العميقة مما شاهده الجنود أو قاموا به خلال أيام الحرب القصيرة. جرائم حرب يندى لها الجبين وعمليات طرد أعادت من كان منهم من الناجين من المحرقة النازية إلى الفظائع التي ارتكبتها ألمانيا النازية بحق اليهود في أوروبا، وهو ما ظهر في شهادة أحد الجنود الذي قال: "خلال الحرب طُلب منا أن نقوم بما يُسمى بـ "إخلاء السكان"، أي أن تقوم بنقل هذا العربي الضاربة جذوره في قريته، وتُحوّله إلى لاجئ، ببساطة تطردُه من هناك، ليس واحداً ولا اثنين أو ثلاثة، إخلاء كما أطلق على ذلك. وعندما ترى أن قرية بأكملها تسير كالقطيع إلى أين يريدون ولا تبدي أي علامة للاعتراض، تدرك عندها ما معنى الهولوكوست".
ويبيّن تقرير "هآرتس" على مر المقابلات مع عوز، وعدد من الجنود الذين تم استخراج شهاداتهم من بكرات التصوير الممنوعة، أن الجو العام الذي ساد عند "المحاربين" هو فظائع حرب، وجرائم أعادت لأذهانهم معاناتهم أو أهاليهم في العهد النازي.
ويشهد عاموس عوز على ذلك بقوله للصحيفة إنه على الرغم من الانتصار بالحرب، إلا أن المحاربين لم يعودوا منها سعداء. الفيلم الذي بدأ عرضه في اليومين الماضيين سيكون شهادة دامغة على جرائم الحرب، لكنه أيضاً سيكون موضع هجوم شديد من اليمين، وممن سيتهمون المخرجة بتوفير الذخيرة لأعداء إسرائيل، وتشويه صورتها وصورة الجيش الأكثر أخلاقية، لكنْ نصوص وأصوات الجنود في بكرات الفيلم لا تترك مجالاً للشك بصدقيته.
ويوضح عوز في حديثه مع "هآرتس"، أن أجواء الانتصار التي عمّت إسرائيل، ومعها عدد من رجال اليسار والأدباء كانت وكأن الخلاص قد جاء، مقابل صمت التزم به المحاربون الذين عادوا من ميادين الحرب، وليس القادة العسكريين، وتحديداً المقاتلين الذين جاؤوا من الكيبوتسات والحركة الكيبوتسية الإسرائيلية (التي زعمت المزاوجة بين الاشتراكية والصهيونية وقيم السلام العالمية).
ومع أن كتاب "حديث المحاربين" بدأ كمبادرة من الحركة نفسها، لتخليد ذكرى جنودها الذين سقطوا في الحرب، إلا أن النتيجة كانت صدمة كبيرة، إذ قامت الرقابة العسكرية على ضوء شهادات الجنود الصريحة بشطب ومنع نشر 70 في المائة مما جاء في التسجيلات الصوتية، وتم نشر ما تبقى منها في كتاب "حديث المحاربين" الذي امتد على 286 صفحة لمنع ضرب الروح المعنوية في إسرائيل، ولطمس الحقيقة والجرائم الفظيعة.
جاء الكتاب صهيونياً بامتياز، يحكي ويسرد بطولات الجنود والقتلى، حكايات الشبان الذين واجهوا العدو وواجهوا الموت، وخلا من أي ذكر للجرائم، لكنه مع ذلك كان موضع استهزاء في إسرائيل، باعتباره مفسداً للروح وللنصر.
وقد تمكنت لوشي مور، أخيراً من إقناع شابيرا بأن يعرض عليها التسجيلات الممنوعة، وفيها ظهرت على امتداد شهادات 400 جندي، فظائع جرائم الحرب، وتكرار الحديث عن استحضار فظائع النازية على ضوء ما قام به الجيش الإسرائيلي نفسه. وجاء في إحدى الشهادات: "في اليوم التالي نقلنا من تبقى من الأسرى، وسمح لهم الجنود المظليون بأن يدفنوا قتلاهم، فقد قتلنا في الليلة السابقة نحو 50 شخصاً. سمحوا لهم بدفن قتلاهم جميعاً، وعندها توجّه الضابط نحوهم وقام بحصدهم، من تبقى من الأسرى بهدوء ومن دون مشاكل".
اقرأ أيضاً: تقرير إسرائيلي عن جرائم جنود الاحتلال في غزة
وتقول المخرجة مور لوشي لصحيفة "هآرتس"، إن الشهادات التي سمعتها، والتي سُجلت فقط بعد أسبوعين من الحرب، "بدت أصيلة وغير زائفة، وهي تصعقك من حيث فحواها وتنبؤها بتداعيات الاحتلال". وتضيف: "لقد أدرك هؤلاء ماذا سيجر الاحتلال على إسرائيل". وتستشهد لوشي بشهادة جندي سابق من كيبوتس عين شيمر القريب من وداي عارة، تشير إلى أنه توفي الآن، وهو قال: "هذه الحرب لم تحل لنا المشكلة، بل إنها عقّدت مشاكل دولة إسرائيل، بحيث سيكون من الصعب الخروج منها". أما الجندي أفيشاي غروسمان، فيقول في التسجيلات المذكورة: "الجولة المقبلة من الحرب ستكون أشد وطأة وأقسى؛ لأننا نجلس على أراضٍ عربية أصيلة ونسيطر على سكان عرب، لا يراودني أدنى شك أن الحرب المقبلة ستندلع قريباً، وسيكون ثمنها أقسى من ثمن حرب الأيام الستة".
لكن الحرب أظهرت أيضاً عمق العنجهية والهمجية الإسرائيلية كما يُستدل من شهادة جاء فيها: "صادفتنا في الطريق قافلة كبيرة تسير في الطرقات الترابية، قمنا بتفتيشهم ولم نجد معهم شيئا فتركناهم (بين المحاضر السرية التي نشرت في اليومين الماضيين، أن وزير الأمن الإسرائيلي موشيه ديان، كان أصدر أمراً للجنود بتمكين الفلسطينيين من النزوح شرقاً). واصلنا السفر ثم قفلنا عائدين، ووجدنا سيارة فيها خمسة جنود وقد أوقفوهم. عرفنا أن هذه القافلة نفسها التي مررنا بها سابقاً، من الحمير والحصون التي فيها. نفس القافلة التي أوقفناها سابقاً، أوقفها الجنود هذه المرة، وأبقوا على الرجال فيما تركوا النساء والأطفال يواصلون سيرهم، وبعد أن ابتعدوا نحو مائة متر أطلق الجنود النار على الرجال الخمسة عشر وأردوهم قتلى. تناقش الجنود طيلة الوقت عما حدث، لكن القائد قال لهم عندما تقطع الأشجار تتطاير الشظايا".
تؤكد مخرجة الفيلم أن جرائم الحرب كانت في كل مكان، وتناولها الجميع في أحاديثهم. وتضيف: "لقد أدخلنا للفيلم عدة حالات تحدّث فيها الجنود عن قتل الأسرى، ولكن في الشهادات المسجّلة هناك أكثر من 30 شهادة أو أربعين عن مثل هذه الحالات. لقد تكررت هذه الشهادات كثيراً، المرة تلو الأخرى".
وتكررت أيضاً المقاربة مع فظائع النازية والمقارنة بين ما فعلته النازية وفعله الجنود الإسرائيليون، هكذا تعترف المخرجة وهي تقول إن هذا الحديث كان بارزاً خلال الشهادات المسجلة، بل إن أحد الجنود، ممن يتضح أنه كان طفلاً عندما هاجر أهله إلى فلسطين بعد المحرقة، يقول بصراحة في شهادته: "كانت هناك لحظة معينة عندما صعدت إلى طريق أريحا، وكان اللاجئون ينزلون منه إلى الأسفل، لقد تضامنت معهم كلياً، وعندما نظرت إلى هؤلاء الأطفال، فيما يقوم أهاليهم بحملهم وجرهم، رأيت نفسي، عندما جرني والدي وحملني. في تلك اللحظات بالذات، عند إحساسي بمعاناة الآخر، معاناة العرب الذين حاربنا ضدهم، شعرت أنهم يمرون عملياً بمعاناة مشابهة للتي مررنا بها في سنوات الحرب (العالمية الثانية)".
ومع أن الفيلم يفضح جرائم الحرب التي يحكي عنها الشهود، إلا أنه في الوقت ذاته يحذر من كشف هوية هؤلاء، أو الإشارة إلى هوية المسؤولين عن الجرائم في صفوف الجنود والضباط.
اقرأ أيضاً: تحقيقات الاحتلال بجرائمه: هل يمكن أن يدين الجيش نفسه؟