تركيا وكُرد سورية بين الجيرة والحيرة

10 اغسطس 2019

سوريات كرديات يتظاهرن في القامشلي (20/1/2019/فرانس برس)

+ الخط -
دفع تطور القضية الكُردية في سورية بشكل خاص والشرق الأوسط بشكل عام، متزامناً مع بدايات الحراك الشعبي في 2011، العامل الكردي في المنطقة إلى واجهة السياسة الخارجية التركية. فمنذ بداية الحدث السوري تعاظم تأثير القضية الكُردية في توجهات تركيا وسياساتها الإقليمية والغربية، وأخذت تدريجيا مكان الأولوية بالنسبة للساسة الأتراك في رسم سياسات البلاد الخارجية. 
تعرّضت جغرافيا المنطقة الكُردية للتفكيك، والباقي يقع تحت خطر استمرارية خط الانهيار. وأي اشتباكٍ مع تركيا في شرقي الفرات يعني دخول تلك المنطقة تحت السيطرة التركية، وأي هجوم من النظام يعني خسارة مزيد من الأرواح والبنية التحتية.
استمرار حالة العداء بين تركيا والعمال الكردستاني، يعني الإبقاء على الشعور التركي بالخطر القادم من الحدود الشمالية السورية، ولعل الرسالة الثالثة لزعيم حزب العمال الكردستاني، عبد الله أوجلان، خلال فترة قصيرة، تشي بشعوره بعمق التأزم الحاصل واحتمالية جر المنطقة إلى حرب طاحنة، وقودها ورمادها سيكونان الكُرد بالدرجة الأولى. لكنها (تركيا) لا تزال تتكئ في تعاملها على مُحددين، أولهما: أمنها الذي تحاول عبره استعادة تنفيذ اتفاقية أضنة عبر توسيعها لتشمل مناطق أبعد ومسافات أعمق. وثانيهما: واقع أنها تحظى بقاعدة وحاضنة جماهيرية سورية كبيرة داخل تركيا وسورية على حدًّ سواء. ويحظى الاتحاد الديمقراطي، في المقابل، على كراهية كبيرة لدى سوريين كثيرين، وهي المعضلة التي لم يتمكّن الحزب من الخروج منها، إذ يقول إنه يطرح مشروعا أمميا، لكنه ناصب العداء لمن لم يتقبل فكرته. ورُبما لم يعد في مقدور تركيا الاستمرار في تعاملها الاستعلائي إزاء القضية الكُردية بحالتها الجديدة بكل تعقيداتها، سواء ضمن أراضيها أو خلف أسوار حدودها، فالمنطق يفرض على الكُرد والترك البحث عن المشتركات والمنافع والمتقاربات بينهما، بدلاً من الغوص في بحر الدماء.
انتهت الحرب في شرق الفرات، ولن تدخل أميركا أي صراع مع تركيا لأجل حزب الاتحاد 
الديمقراطي (الكردي)، ولا مع روسيا الساعية إلى إعادة سيطرة النظام على معظم البلاد، وما تسعى إليه أميركا يركز على عودة تركيا إلى حضنها وقطع علاقاتها مع روسيا. وممر السلام المطروح لن يكون، على الأغلب، وفق المزاج والرغبة التركية. فلو تمت إعادة اللاجئين إلى المنطقة الكُردية في شمال سورية، سيكون خطر التغيير الديمغرافي بمثابة البطاقة الحمراء الأخيرة في وجه التطلعات القومية الكردية. ولكن عوضاً عن ذلك، يُمكن لتركيا أن تتخلص من حالة تصاعد التململ والتأزم المجتمعي بين النازحين السوريين وشرائح من المجتمع التركي، خصوصا الذين لم ينخرطوا في مجتمع العمل والدراسة أو الإقامة التركية، فهؤلاء يُمكن أن يعودوا إلى المنطقة العربية في شرق الفرات (دير الزور والرقة)، والضامن الوحيد ستكون الإدارة الأميركية التي ستتخلص من ضغوط الدول الأوروبية التي ملت من ابتزاز تركيا لها، بفتح الحدود أمام الملايين من السوريين للهجرة غير الشرعية إلى أوروبا.
المنطقة الآمنة، إن وُجدت، ستكون بالغطاء الدولي عينه الذي أوجدها في عفرين. سيخضع الفرق بين الحالتين لثلاثة مواقف: 1: إيجاد أميركا توازنا بين حليفتها المهمة تركيا، وشريكتها في محاربة مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية، وقوات سورية الديمقراطية (قسد). 2: موقف "الاتحاد الديمقراطي" ما بين الكفّ عن السعي إلى حل القضية الكُردية في تركيا عبر المنطقة الكُردية في سورية، وقضية الخمسة كيلومترات فقط، يعني أن تركيا ستبني حزاماً ضمن المنطقة الكُردية، من دون أن يستفيد الكُرد منه شيئاً، ورُبما تسعى الإدارة الذاتية إلى فتح معبر نصيبين مع تركيا للاستفادة المالية والسياسية. 3: موقف المجلس الوطني الكردي وباقي المكونات الرئيسية المتفقة مع إقامة المنطقة الآمنة، وما لم يُشارك المجلس في إدارة المنطقة إلى جانب أميركا، فإن بيانات المجلس ستبقى مُجرد زوائد، من دون فوائد.
لو أراد المجلس الكردي استلام ناصية العمل، فإنه سيكون بحاجة إلى قوة عسكرية تمكّنه من ذلك. وهذا ما لن يتم قبل الانخراط عملياً مع التوجه الأميركي. منذ سبع سنوات والمجلس يقول إنه يُطالب بإقليم كردستاني في الشمال السوري، وهذا لن يتحقق لو لم يطالب بمنطقة آمنة تشمل الشريط الحدودي والعمق الكردي في شرق الفرات بكامله، برعاية دولية ودور للكرد ومكونات المنطقة. ويستلزم ذلك الاستفادة من علاقات المجلس الكردي مع تركيا، وبل تطويرها، ثم تهيئة أرضية مناسبة للثقة بين الاتحاد الديمقراطي والمجلس الكردي، للدخول في تفاهمات حول مستقبل الكُرد والمنطقة، وإن تم استبعاد العناصر العسكرية، مثل وحدات الحماية الشعبية أو "قسد"، فهو بقرار دولي لا قدرة لأحد الوقوف في وجهه. مع ذلك، يبدو أن الاتحاد الديمقراطي باقٍ كحزب سياسي، ثم يتوجب أن يتبعه حوار كردي مع باقي المكونات في شرق الفرات، والعمل على علاقات جيرة طبيعية مع تركيا عوضاً عن أيَّ مشكلات أو صراعات، فالقوات الأميركية ستنسحب ولو بعد حين، والمرجح أن تكون القوة الفاعلة والمؤثرة في شرق الفرات محصورة بين تركيا وإقليم كُردستان العراق والمكونات الفاعلة والرئيسية في تلك المنطقة.
تتجاور تركيا مع الكُرد في سورية بـ850 كيلومتراً، ولا يمكن لأيّ من طرفي الحدود حمل 
حقائبه والسفر بعيداً، ولن يهنأ طرفا الحدود بين تركيا وسورية بالهدوء والراحة، ولن يرتاح إقليم كُردستان العراق حتى يتم الدفع بعملية السلام بين تركيا وأوجلان مجدّداً. يُمكن حينها الحديث عن الثقة المتبادلة بين الكُرد والنظام التركي، فتفضيل المصالح العليا للكُرد في سورية ضرورة قصوى. وهذا يدل على وعي الكُرد بأهمية تركيا وقوتها الاقتصادية والعسكرية ومكانتها الاستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط والعالم كله. حينها سيبدأ الكُرد بترتيب أمورهم كقوة اقتصادية صاعدة، وعامل استقرار في المنطقة، عوضاً عن أوهام الانتصار العسكري على دولة كتركيا.
سؤالان مُحيران جداً، يُحددان مصير المنطقة الكُردية في سورية ومستقبلها: هل سيقتنع الاتحاد الديمقراطي بضرورة أن يكون حزباً كُردياً سورياً صرفاً، ويركن للوقائع، والرجوع إلى الحضن الكُردي، ويقنع بأنه أصبح مادة غير قابلة للتدوير سياسياً لدى التحالف الدولي، ما لم يُغيّر في كامل سياساته، وفي مقدمتها قضية التعامل والتعاطي السياسي والأمني والاقتصادي الداخلي؟ هل يقتنعون بأن القضية الكُردية في سورية تُحل في دمشق المستقبل، وليس في تركيا، وأن ثمّة قضية كُردية في سورية، وليست عداوة الكُرد في سورية ضد تركيا؟ وهل ستدفع تركيا نحو علاقات اقتصادية قوية مع الكُرد، في مقابل غض النظر عن وجود كيان كُردي في شرق الفرات، أم أن الظروف السياسية في تركيا والمعطيات السياسية والعسكرية في المنطقة الكُردية في سورية ستدفع الدولة التركية نحو الحرب؟