05 نوفمبر 2024
تركيا وداعش: من انقلب على الآخر؟
لم تعد التحولات التركية الأخيرة (في الأيام الماضية) محلّاً للتشكيك، بخاصة بعد أن صدرت تصريحات رسمية تؤكّدها، سواء عبر خطاب لرئيس الجمهورية، رجب طيب أردوغان، أو رئيس الوزراء، داود أوغلو، أو حتى بيان الخارجية التركية.
في المجمل، تشير تلك التصريحات إلى دخول الحكومة التركية في الحرب على الإرهاب ضد تنظيم داعش (بقيادة الولايات المتحدة الأميركية)، سواء عبر توجيه ضربات عسكرية مباشرة، كما حدث فعلاً، أو حملة الاعتقالات التي طاولت مئات المشتبه بتأييدهم التنظيم ووقوفهم معه، والتشديدات الأمنية، أو فتح القواعد العسكرية التركية أمام الطائرات الأميركية، الأمر الذي كانت تركيا تتحفّظ عليه، ارتباطاً بعدم رضاها عن المقاربة الأميركية.
ربطت المواقف التركية الجديدة، سياسياً وإعلامياً، بالتفجير الانتحاري الذي وقع، الإثنين الماضي، في مدينة سروج جنوب شرقي تركيا، وراح ضحيته عشرات القتلى والجرحى، وأعلنت السلطات التركية أنّ المتهم الرئيس في العملية هو تنظيم داعش، فيما لم يصدر عن التنظيم (لغاية كتابة هذا المقال) أيّ بيان يؤكّد أو حتى يلمّح فيه لمسؤوليته عن العملية.
في يوم الخميس الماضي، قُتل جندي تركي في مخفر حدودي، جراء قصف من عناصر التنظيم، ما أدى إلى ردّ الجيش التركي بقصف جوّي لمواقع التنظيم داخل سورية، مع نفي السلطات التركية أخباراً نقلتها وكالات إخبارية بتوغل عسكري بري للجيش التركي في الأراضي السورية.
المفارقة المدهشة، في الأخبار السابقة، أنّ من بدأ التصعيد مع الأتراك هو تنظيم داعش، وليس العكس، إذا كانت العملية الانتحارية بالفعل نفّذها تركي ينتمي للتنظيم ضد الأتراك، والسؤال الأكثر أهمية هو فيما إذا كانت العملية تمّت بقرارٍ مركزي من التنظيم، والحال كذلك، فإنّ التنظيم هو من بادر بقصف مركز للجيش التركي، ما استدعى الردّ.
إذا أخذنا الأمر من الزاوية الأخرى التي لم تأخذ نصيباً من التحليل السياسي، أي لماذا انقلب التنظيم على الأتراك، وقام بالعملية الانتحارية، واستعدى تركيا، وأقحم نفسه بمواجهة مع دولة كانت تتجنب الدخول في الحرب على الإرهاب، بل ومتّهم رئيسها بأنّه متساهل ومتواطئ مع دخول أعداد كبيرة من القادمين من الخارج، عبر الأراضي التركية، إلى الأقاليم التي يسيطر عليها التنظيم؟
هل هي "ذروة الغباء السياسي" أم سذاجة أيديولوجية مفرطة في التعامل مع الأجندات الإقليمية؟ مثل هذه الأجوبة المحتملة سطحية، ولا تتسق مع سلوك التنظيم الواقعي- البراغماتي في أحيان كثيرة (على النقيض من الأيديولوجيا الدينية السياسية التي يؤمن بها) في تعامله مع الأحداث والدول والمصالح المتضاربة في المنطقة، إذ نجح في استثمار هذه الفوضى إلى أبعد مدى، وعقد صفقة مسبقاً مع الأتراك (أدت إلى الإفراج بالمبادلة عن عدد من قياداته والدبلوماسيين الأتراك)، ولم يتحرّك ضد المصالح التركية في الداخل، على الرغم من أنّ هنالك إمكانية كبيرة لذلك، فهنالك مئات الأتراك (في الحدّ الأدنى من أعضاء التنظيم) وآلاف العابرين للأراضي التركية من أنصاره؛ فلماذا لم يستهدف تركيا إلاّ الآن، وفي هذه اللحظة التي يخوض فيها حرباً ضروساً قاسية على جبهات عديدة (مع الجيش العراقي في الأنبار والسوري في سورية ومع الأكراد في كلا الدولتين، ومع الفصائل الإسلامية السورية المختلفة)؟
ثمّة جهاز عسكري محترف يقود التنظيم، بعيداً عن الجهاز الأيديولوجي الدعائي، وهو الذي يفتح الجهات ويغلقها، وأثبت قدرات كبيرة خلال الأعوام الماضية، ومن الغريب أن يرتكب هذا الخطأ القاتل مع الأتراك، فما الذي حدث؟ وكيف نفسّر العملية الانتحارية؟ ثم الاشتباكات الأخيرة؟
بالضرورة هنالك معطيات غير واضحة بعد، أو ليست مكشوفة، ولا معلنة، فيما يحدث بين الأتراك وهذا التنظيم، لكن ذلك لا ينفي أنّ موقف قيادة داعش إلى الآن غامض، فلا هي أعلنت مسؤوليتها عن العملية الانتحارية، ولا هي نفت الاتهام التركي، وذلك لا يضعنا أمام احتمالات رئيسة، على الأرجح حتى تتضح الصورة أكثر.
الاحتمال الأول أنّ العملية تمّت عبر أعضاء في التنظيم كانوا يريدون الانتقام من الأكراد، ولم تكن بقرار مركزي من القيادة، أو هي اجتهاد من قيادات ثانوية وليست رئيسية، أو من تيار داخل التنظيم لم يأخذ قراراً مفصلياً من القيادة العليا.
الاحتمال الثاني أنّ العملية تمت بالفعل بقرار قيادي مركزي، لكن المستهدف فيها الأكراد، بوصفهم عدواً للتنظيم، وفقاً لمعلومات أمنية وردت له حول نشاط للمجموعة المستهدفة. لكن، لم يكن في تقدير القيادة أنّ هذه الحادثة ستؤدي إلى نتائج وخيمة.
الاحتمال الثالث أنّ العملية والاشتباكات بمثابة رسالة من التنظيم إلى الأتراك، بعد أن التقط إرهاصات لتحولات في السياسة التركية تجاهه، فأراد استباق رد الفعل بفعلٍ يحمل في طياته تهديداً بأن تصبح تركيا هدفاً من أهداف التنظيم، مع التلويح بأنّه تمكن، في الأعوام الماضية، من بناء شبكة خلايا قد تؤذي الأمن والسياحة التركية، في هذه اللحظة التي تمثّل منعطفاً كبيراً للرئيس أردوغان، ولحزب العدالة والتنمية الحاكم، خصوصاً بعد الانتخابات البرلمانية أخيراً.
أيّاً كان الاحتمال الأقوى، فإنّ قواعد اللعبة بين الطرفين تغيّرت، لكنّ المسألة أكثر تعقيداً، بالنسبة للطرفين، وتحديداً للمقاربة التركية، مما يبدو على السطح، وربما يتضح ذلك من إصرار أردوغان والحكومة التركية على ربط التنظيم بالأكراد بوصفهما مصدر تهديد رئيس.
من ناحية أخرى، لا يمكن القول إنّ المقاربة التركية تجاه سورية تغيّرت، أو في طريقها إلى التغيّر، على الأقل في عهد أردوغان واللحظة الراهنة، ويبدو ذلك من تحديد ثلاثة أهداف للعملية العسكرية: محاربة التنظيمات الإرهابية الكردية وداعش والديمقراطية في الجوار (أي إطاحة الرئيس الأسد)، وهو ما يظهر كذلك في الحديث عن "منطقة خالية من داعش"، يتم فيها إحلال الجيش الحرّ مكان التنظيم، بما ينسجم مع المقاربة التركية.
ما تزال التفاهمات التركية- الأميركية التي فتحت الباب لانخراط تركيا بالحرب على الإرهاب غير معروفة تماماً. لكن، ما هو مؤكّد تماماً أن الأتراك لن يتخلوا عن مقاربتهم بصورة كاملة، ولن يتورطوا في حربٍ بالوكالة ضد التنظيم، لمصلحة الأكراد أو خدمة لنظام الرئيس بشار الأسد، فما تزال هنالك خطوط غير واضحة، بعد في اللعبة الجديدة في المنطقة!
ربطت المواقف التركية الجديدة، سياسياً وإعلامياً، بالتفجير الانتحاري الذي وقع، الإثنين الماضي، في مدينة سروج جنوب شرقي تركيا، وراح ضحيته عشرات القتلى والجرحى، وأعلنت السلطات التركية أنّ المتهم الرئيس في العملية هو تنظيم داعش، فيما لم يصدر عن التنظيم (لغاية كتابة هذا المقال) أيّ بيان يؤكّد أو حتى يلمّح فيه لمسؤوليته عن العملية.
في يوم الخميس الماضي، قُتل جندي تركي في مخفر حدودي، جراء قصف من عناصر التنظيم، ما أدى إلى ردّ الجيش التركي بقصف جوّي لمواقع التنظيم داخل سورية، مع نفي السلطات التركية أخباراً نقلتها وكالات إخبارية بتوغل عسكري بري للجيش التركي في الأراضي السورية.
المفارقة المدهشة، في الأخبار السابقة، أنّ من بدأ التصعيد مع الأتراك هو تنظيم داعش، وليس العكس، إذا كانت العملية الانتحارية بالفعل نفّذها تركي ينتمي للتنظيم ضد الأتراك، والسؤال الأكثر أهمية هو فيما إذا كانت العملية تمّت بقرارٍ مركزي من التنظيم، والحال كذلك، فإنّ التنظيم هو من بادر بقصف مركز للجيش التركي، ما استدعى الردّ.
إذا أخذنا الأمر من الزاوية الأخرى التي لم تأخذ نصيباً من التحليل السياسي، أي لماذا انقلب التنظيم على الأتراك، وقام بالعملية الانتحارية، واستعدى تركيا، وأقحم نفسه بمواجهة مع دولة كانت تتجنب الدخول في الحرب على الإرهاب، بل ومتّهم رئيسها بأنّه متساهل ومتواطئ مع دخول أعداد كبيرة من القادمين من الخارج، عبر الأراضي التركية، إلى الأقاليم التي يسيطر عليها التنظيم؟
هل هي "ذروة الغباء السياسي" أم سذاجة أيديولوجية مفرطة في التعامل مع الأجندات الإقليمية؟ مثل هذه الأجوبة المحتملة سطحية، ولا تتسق مع سلوك التنظيم الواقعي- البراغماتي في أحيان كثيرة (على النقيض من الأيديولوجيا الدينية السياسية التي يؤمن بها) في تعامله مع الأحداث والدول والمصالح المتضاربة في المنطقة، إذ نجح في استثمار هذه الفوضى إلى أبعد مدى، وعقد صفقة مسبقاً مع الأتراك (أدت إلى الإفراج بالمبادلة عن عدد من قياداته والدبلوماسيين الأتراك)، ولم يتحرّك ضد المصالح التركية في الداخل، على الرغم من أنّ هنالك إمكانية كبيرة لذلك، فهنالك مئات الأتراك (في الحدّ الأدنى من أعضاء التنظيم) وآلاف العابرين للأراضي التركية من أنصاره؛ فلماذا لم يستهدف تركيا إلاّ الآن، وفي هذه اللحظة التي يخوض فيها حرباً ضروساً قاسية على جبهات عديدة (مع الجيش العراقي في الأنبار والسوري في سورية ومع الأكراد في كلا الدولتين، ومع الفصائل الإسلامية السورية المختلفة)؟
ثمّة جهاز عسكري محترف يقود التنظيم، بعيداً عن الجهاز الأيديولوجي الدعائي، وهو الذي يفتح الجهات ويغلقها، وأثبت قدرات كبيرة خلال الأعوام الماضية، ومن الغريب أن يرتكب هذا الخطأ القاتل مع الأتراك، فما الذي حدث؟ وكيف نفسّر العملية الانتحارية؟ ثم الاشتباكات الأخيرة؟
بالضرورة هنالك معطيات غير واضحة بعد، أو ليست مكشوفة، ولا معلنة، فيما يحدث بين الأتراك وهذا التنظيم، لكن ذلك لا ينفي أنّ موقف قيادة داعش إلى الآن غامض، فلا هي أعلنت مسؤوليتها عن العملية الانتحارية، ولا هي نفت الاتهام التركي، وذلك لا يضعنا أمام احتمالات رئيسة، على الأرجح حتى تتضح الصورة أكثر.
الاحتمال الأول أنّ العملية تمّت عبر أعضاء في التنظيم كانوا يريدون الانتقام من الأكراد، ولم تكن بقرار مركزي من القيادة، أو هي اجتهاد من قيادات ثانوية وليست رئيسية، أو من تيار داخل التنظيم لم يأخذ قراراً مفصلياً من القيادة العليا.
الاحتمال الثاني أنّ العملية تمت بالفعل بقرار قيادي مركزي، لكن المستهدف فيها الأكراد، بوصفهم عدواً للتنظيم، وفقاً لمعلومات أمنية وردت له حول نشاط للمجموعة المستهدفة. لكن، لم يكن في تقدير القيادة أنّ هذه الحادثة ستؤدي إلى نتائج وخيمة.
الاحتمال الثالث أنّ العملية والاشتباكات بمثابة رسالة من التنظيم إلى الأتراك، بعد أن التقط إرهاصات لتحولات في السياسة التركية تجاهه، فأراد استباق رد الفعل بفعلٍ يحمل في طياته تهديداً بأن تصبح تركيا هدفاً من أهداف التنظيم، مع التلويح بأنّه تمكن، في الأعوام الماضية، من بناء شبكة خلايا قد تؤذي الأمن والسياحة التركية، في هذه اللحظة التي تمثّل منعطفاً كبيراً للرئيس أردوغان، ولحزب العدالة والتنمية الحاكم، خصوصاً بعد الانتخابات البرلمانية أخيراً.
أيّاً كان الاحتمال الأقوى، فإنّ قواعد اللعبة بين الطرفين تغيّرت، لكنّ المسألة أكثر تعقيداً، بالنسبة للطرفين، وتحديداً للمقاربة التركية، مما يبدو على السطح، وربما يتضح ذلك من إصرار أردوغان والحكومة التركية على ربط التنظيم بالأكراد بوصفهما مصدر تهديد رئيس.
من ناحية أخرى، لا يمكن القول إنّ المقاربة التركية تجاه سورية تغيّرت، أو في طريقها إلى التغيّر، على الأقل في عهد أردوغان واللحظة الراهنة، ويبدو ذلك من تحديد ثلاثة أهداف للعملية العسكرية: محاربة التنظيمات الإرهابية الكردية وداعش والديمقراطية في الجوار (أي إطاحة الرئيس الأسد)، وهو ما يظهر كذلك في الحديث عن "منطقة خالية من داعش"، يتم فيها إحلال الجيش الحرّ مكان التنظيم، بما ينسجم مع المقاربة التركية.
ما تزال التفاهمات التركية- الأميركية التي فتحت الباب لانخراط تركيا بالحرب على الإرهاب غير معروفة تماماً. لكن، ما هو مؤكّد تماماً أن الأتراك لن يتخلوا عن مقاربتهم بصورة كاملة، ولن يتورطوا في حربٍ بالوكالة ضد التنظيم، لمصلحة الأكراد أو خدمة لنظام الرئيس بشار الأسد، فما تزال هنالك خطوط غير واضحة، بعد في اللعبة الجديدة في المنطقة!