تركيا والمثلث العربي

19 نوفمبر 2016
+ الخط -
عندما نحاول قراءة التاريخ السياسي للمنطقة العربية والإسلامية، ونضع بجوارها الجغرافية السياسية للمنطقة، نجد حلاً لأمور كثيرة كانت غامضة وضائعة عن العقلية العربية، خصوصاً وأنّ الذاكرة العربية ضعيفة جداً، إلى درجة أنّنا ننسى أسماء السلاطين العثمانيين، وقد اعتبرناهم في فترة احتلالاً همجياً حاول تتريك الأمة العربية، وحاول شرذمتها، لكن الحقيقة المؤلمة أنّ هناك من وضع منهجاً واضحاً حاول فيه زرع التفرقة بين الأمة الإسلامية، وجعلها أمتين على أساس العرق، وبعدها على أساس الطائفة، وما زال يتبع المنهج نفسه، زرع بين العرب أنّ العثمانيين كانوا دولة احتلال ودولة امتصاص لخيرات الشعوب، وزرع أيضاً بين الأتراك أنّ العرب خائنون، وهم من باعوا العثمانيين للأوروبي الغريب. لكن الحقيقة لا هذا ولا ذاك.
وهناك من حاول زرع هذه المفاهيم بطريقة ممنهجة وواضحة. العرب قدّموا من التضحيات في جناك قلعة، وكأنّها أرضهم وبلادهم، ودافعوا عن تاريخهم ودينهم كالأتراك تماماً تحت العلم التركي، وتحت راية الأتراك. وفي المقابل، رفض السلطان عبد الحميد بيع شبر من أرض فلسطين لليهود، واعتبرها جزءاً من هويته الدينية.
حلب والموصل والقاهرة هي العواصم الحقيقية للدول التي استمرّت قروناً طويلة في تاريخنا الإسلامي، ففي بداية الإسلام كانت أولى الجيوش الإسلامية قد توّجهت إلى بلاد الشام، ثم تلاها الجيوش التي توّجهت إلى العراق، كما أنّ الدولة الأموية اتخذت من بلاد الشام مركزاً لها، والدولة العباسية اتخذت من العراق أساس حكمها. وفيما بعد، تركّزت الدولة الفاطمية والمماليك في مصر، حتى عندما جاءت الخلافة العثمانية، ركزت، في بداية الأمر، على منطقة العراق في معركة جالديران ثم بلاد الشام في مرج دابق، ثم انتقلت مصر مع معركة الريدانية. لذلك، نرى أنّ هناك تركيزاً أزلياً على هذا المثلث الذي تمتد زواياه من حلب إلى الموصل إلى العراق، وهي المعارك التي دارت حولها معظم حروب القرون الماضية، بما في ذلك الحروب الصليبية، فالصليبيون لم يدخلوا القدس، حتى كان جانبهم المصري آمناً من جهة الفاطميين.
وكان من الواضح أنّ من يسيطر على هذا المثلث يسيطر على العالمين، العربي والإسلامي، وهو ما تحاوله إيران جاهدة في استماتتها في السيطرة على حلب والموصل حالياً، من خلال الحشد الشعبي الطائفي الذي ينفذ الأجندات الإيرانية في العراق، ويبدو شغفها واضحاً من خلال استغلال الفرصة، لتوّتر العلاقات السعودية المصرية، والاستفادة من هذا البرود لصالحها في خطتها إلى السعي على هذا المثلث، لكن ضعف القيادة العربية والبعد السياسي العربي زاد على تركيا العبء والمسؤولية لأنّها الوحيدة التي تنظر إلى الأمر بمنظار التاريخ والجغرافية السياسية. لذلك، نراها لا تتوانى في إقحام نفسها في حرب على جبهتين، تمتدّان على طول الحدود السورية وجزء من الحدود العراقية، لتمنع هذه السيطرة الإيرانية، ولتعيد إلى أذهانهم أنّ تركيا كانت سيدة العالم في بضع سنوات مضت، وهي صاحب الحق في الدفاع عن أراضيها ودينها وتاريخها الطويل.
تواجه تركيا، في الوقت نفسه، سيلاً ضخماً من الضغوط، إذ تواجه عدّة منظمات إرهابية، تدعمها الولايات المتحدة الأميركية، والسرّ الأميركي في دعم الفصائل الكردية الانفصالية هو مساعدتهم في إقامة دولة كردية انفصالية، وذلك لتمرير خطوط النفط والغاز عبر أراضيهم إلى البحر الأبيض، والاستغناء عن الأراضي التركية الممتدة والطويلة، وذات التكاليف العالية. وبذلك، تنجح في فصل تركيا عن العالم العربي ومحاصرتها من كلّ الجهات دينياً وعرقياً.
حتى تتحقّق هذه السيطرة التركية الجديدة على المنطقة من جديد، لا بد من توجيه خطاباتٍ غير مباشرة إلى الشعوب، وليس الدول، هذه الشعوب المستضعفة التي تتطلع إلى المخلّص، وتنظر إلى تركيا باعتبارها آخر أمل لهم، هذه الخطابات غير مباشرة، يجب أن تنطلق من حلب والموصل والقاهرة، هذا المثلث الرئيسي في السيطرة والحكم.
يحتم الارتباط القديم تاريخياً وجغرافياً ودينياً على تركيا الإنخراط في المنطقة، كما يتوّجب على العرب التوّجه إلى تركيا بديلاً قوياً وجديراً بالثقة عن أوروبا، فلا قوّة لأحد في المنطقة من دون السيطرة على هذا المثلث.
F8820861-91DD-48F5-87FF-4EAA2C19D1BD
F8820861-91DD-48F5-87FF-4EAA2C19D1BD
محمود حج علي (سورية)
محمود حج علي (سورية)