تركيا وأفريقيا إلى شراكة استراتيجية
سعت تركيا، منذ سنوات، إلى بناء جسور التواصل مع دول ثلاث قارات، هي أميركا اللاتينية وآسيا وأفريقيا، واختارت المدخل الاقتصادي والتجاري إلى شعوب هذه القارات، حيث أعطت الأولوية والأهمية للدول الأفريقية، من خلال بناء ما تسميه "الجسر الدولي للتجارة بين تركيا وأفريقيا"، إذ تعتبر أنقرة أن هذا الجسر من شأنه أن يقرب الشعوب إلى بعضها، ويقارب رجال الأعمال والمستثمرين من كلا الطرفين. وقد عبر الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، عن إصراره على تقوية العلاقات مع القارة السمراء، في جولته الأفريقية، أواخر يناير/ كانون الثاني الماضي، وهي جولته الثانية في القارة خلال الأشهر القليلة الماضية. وينظر إلى أردوغان على أنه الزعيم الوحيد الذي زار الصومال، في ظل ما تعانيه في هذه المرحلة، بفعل المجاعات والحرب الأهلية. وهو أول زعيم عالمي زار الصومال عام 2011 خلال عقود، للفت أنظار الرأي العام العالمي إلى معاناة شعب هذا البلد، وأوضاعه الخطيرة، حيث تسودها فوضى كبيرة.
تختلف زيارة أردوغان هذه عن سابقتها، عندما كان رئيسا للوزراء، في ظروفها وطبيعتها، لأنها تأتي في وقت قطع الصومال فيه شوطا كبيرا نحو التقدم في الملف الأمني وحركة التجارة والعمران، بدعم من دول كثيرة تتقدمها تركيا، ففي حين شهدت الزيارة السابقة عام 2011 زيارة مخيمات للنازحين، فقد شهدت هذه الزيارة افتتاح مشاريع نفذها الأتراك في العاصمة مقديشو.
استثمارات وزعامة
وبحسب صحيفة زمان التركية، كان هدف زيارة الرئيس التركي الصومال، ضمن جولة أفريقية، ضخ استثمارات جديدة في السوق الأفريقية، وتقييم انفتاح أنقرة على القارة، كما أن الصومال تعد في صميم هذه الأهداف. وقال الدكتور محمد حبيب، نائب رئيس جامعة أديس أبابا في إثيوبيا، إن الشراكة الاقتصادية بين تركيا وأفريقيا بدأت تقترب من تحقيق الأهداف التي اتفق عليها في القمة الأولى للشراكة الاستراتيجية بينهما، وأفاد بأن حجم التبادل التجاري بين تركيا ودول القارة بلغ 23.4 مليار دولار في العام 2014، فيما بلغ حجمه بين تركيا ودول أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى 5.7 مليارات دولار، وهذا ارتفاع كبير مقارنة بحجم التبادل التجاري المسجل بين تركيا ودول أفريقيا في عام 2003، والذي بلغ حوالي 5.4 مليارات دولار.
ويعتقد أن كل هذه الخطوات من جانب الأتراك تأتي ضمن استراتيجية تركية، تشمل القارة الأفريقية في خضم سباق محموم حول أفريقيا بين العملاق الصيني والولايات المتحدة، ويبدو أن تركيا تريد حصتها في أفريقيا، قوة عظمى صاعدة، وبذلك يكون الصومال أحد مداخلها إلى عالم أفريقيا.
ويرى محللون سياسيون أن الحضور التركي في الصومال يهدف إلى إظهار الزعامة التركية للعالم الإسلامي قوة عظمى، عسكرية واقتصادية، تقود الأمة الإسلامية، كما أن اهتمامها بالصومال، جاء إدراكا منها بأهمية الصومال الجيواستراتيجية، بالنظر إلى موقعها الجغرافي الذي يربط بين القارات، وباعتبارها ممرا مهما للطاقة في العالم، إضافة إلى ثروات كثيرة يمتلكها الصومال في ظاهر الأرض وباطنها. بينما ينظر مراقبون إلى التطور في العلاقات بين تركيا ودول أفريقيا على أنه أحد أبرز أوجه التنافس بين تركيا والدول الكبرى التي تتطلع لتطوير وجودها في افريقيا، خصوصاً في المجالات الاقتصادية.
ثلاث مراحل
ويمكن تقسيم تطور السياسة الخارجية التركية تجاه القارة الأفريقية إلى ثلاث مراحل: الأولى، من 1998 عندما تبنت تركيا ما أطلق عليها الخطة الأفريقية، واستمرت إلى عام 2005 الذي أعلنت أنه عام أفريقيا، وقد عملت تركيا، في هذه الفترة، على إرساء الدواعم الدبلوماسية، وإعداد شكل أكثر منهجية في التعامل مع القارة السمراء.
الثانية، بين عامي 2005 و2011، عملت تركيا فيها على تقوية علاقاتها بأفريقيا على كل المستويات، وحصلت على منصب مراقب في الاتحاد الافريقي عام 2005، ثم أصبحت حليفاً استراتيجياً في يناير/كانون الثاني 2008، وانضمت تركيا إلى البنك الأفريقي للتنمية، وعملت على تقوية علاقاتها بهيئة المنظمات الحكومية الدولية للتنمية في شرق أفريقيا، والتجمع الاقتصادي لدول غرب أفريقيا، ما ساهم في إعطاء هذه العلاقة شكلاً مؤسسياً، كما عقد المؤتمر الأفريقي التركي عام 2008، وزادت حركة التجارة بين الطرفين في هذه الفترة.
وبدأت المرحلة الثالثة في عام 2011، مع الاهتمام التركي بالوضع في الصومال، ودور تركيا في إلقاء الضوء على ما يعانيه الشعب الصومالي، واستضافت تركيا في اسطنبول المؤتمر الصومالي الثاني في عام 2012، تحت عنوان "تحديد المستقبل الصومالي .. أهداف عام 2015"، وبالتعاون مع منظمة الأمم المتحدة، بمشاركة 57 دولة، و11 مؤسسة إقليمية ودولية، ونوقشت فيه قضايا ملحة، مثل قضية المياه والطاقة والطرق والنزعات الانفصالية.
مناورة مع الاتحاد الأوروبي
ولا يخفى أن تركيا تواجه عقبات جدية أمام انضمامها للاتحاد الأوروبي، وإدراكاً من أنقرة لهذا، فإنها تسعى، بجدية، إلى الانفتاح الاقتصادي والتجاري والسياسي على جميع دول القارة السمراء، حيث تشكل العلاقة التركية الأفريقية جانباً جديداً ومهماً في السياسة الخارجية التركية. وتقوم أنقرة بمناورة ذكية مع الاتحاد الأوروبي، بإيجاد بدائل اقتصادية، تمكنها من اختراق أسواق أفريقيا التي تمتصها أوروبا من دون جدوى لشعوبها، وهي رسالة موجهة، في الحقيقة، لفرنسا خصوصاً، مفادها بأن تركيا قادرة على طرح نفسها بديلاً مقبولاً، بل ربما أفضل من فرنسا التي تعاملت مع الشعوب الأفريقية بعقلية استعمارية.
وقد لفت الاهتمام التركي بالجانب الأفريقي انتباه لاعبين دوليين، أبدوا رغبتهم في التعاون مع تركيا في هذا الصدد، إذ عقد مسؤولون أتراك مشاورات مع مسؤولين من أميركا وإسبانيا وبريطانيا والسويد والاتحاد الأوروبي حول التعاون في القارة الأفريقية، وقد اقترحت دول، مثل فرنسا، أن تنفذ تركيا، بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي، بعثات تجارية مشتركة في أفريقيا لمواجهة نجاح الصين في الاستحواذ على جانب كبير من الصفقات التجارية مع الدول الأفريقية.
ولتركيا أهداف استراتيجية، تتمثل بالدفاع عن مصالحها في المنطقة، لتتجاوز المسرح الإقليمي، وإيجاد مجال حيوي جديد لطاقاتها وإمكاناتها الإنتاجية والفنية، على نحو يؤدي إلى مكاسب اقتصادية في زيادة التبادل التجاري، وإيجاد سوق واسعة، فتركيا إحدى الدول الثلاث النشطة في القارة الأفريقية، مع الصين والهند.
وفي إطار رغبة أنقرة في أن تصبح لاعباً سياسيا في أفريقيا، فهي تولي محاولة حل المشكلات المزمنة في القارة الأفريقية اهتماماً كبيراً، واستدعى التوجه التركي الجديد نحو أفريقيا توسعاً في الحضور الدبلوماسي التركي، وتم زيادة عدد السفارات التركية في القارة من 12 سفارة عام 2002 إلى 39 عام 2014.
أما المساعدات التركية التنموية للدول الأفريقية، فقد زادت عشرة أضعاف، حيث يذهب ثلث المساعدات التركية التنموية إلى دول القارة، ويصل حجم المساعدات التنموية التركية إلى أفريقيا إلى نحو 500 مليون دولار سنوياً، فضلاً عن المساعدات الإنسانية، والدعم البشري والمالي التركي لخمس بعثات تابعة للأمم المتحدة من أصل ست بعثات، تعمل في أفريقيا حالياً. ويمثل الدين والتاريخ عناصر مهمة في دعم العلاقات التركية الأفريقية، وفيما لم تكن إدارة الشؤون الدينية في تركيا، تاريخياً، تلعب أي دور على مستوى السياسة الخارجية، وكان دورها يقتصر على تلبية احتياجات المسلمين داخل البلاد، إلا أن ذلك تغير في عهد السياسة الخارجية التركية النشطة ومتعددة المستويات. وأصبح الدين أحد أبعاد قوة تركيا الناعمة، خصوصاً في أفريقيا، ما انعكس على دور الإدارة الدينية، ومن أدوارها، الآن، جمع القيادات الدينية الأفريقية للاجتماع في إسطنبول، وهذا تحول مهم لتركيا، الدولة العلمانية وفق دستورها، حيث ظلت مغيبة عن فعاليات دينية حتى عام 2002.
ويمكن النظر إلى استضافة تركيا لقاء علماء الدين الأفارقة في اسطنبول عام 2006، والذي ضم ممثلي 21 دولة، كمؤشر على نقطتي تحول كبيرتين في السياسة الخارجية التركية. الأولى، تغير رؤية الدولة في التعامل مع الجماعات والمؤتمرات ذات التوجه الديني، إذ أصبحت تراها وسيلة لتحقيق المصالح القومية التركية بالقوة الناعمة. والثانية، إدراك تركيا أن استكمال ودعم سياسة الانفتاح على أفريقيا يتطلب توظيف البعد الديني.
تعتبر أفريقيا، اليوم، القارة صاحبة الاقتصاد الأسرع نمواً في العالم، وبحسب معطيات صندوق النقد الدولي، فإن عشر دول أفريقية تقع على لائحة الدول الـ 64 الأسرع نمواً في عام 2014. لذلك، تجذب أفريقيا انتباه الدول المتقدمة بشكل مختلف عما جرت عليه العادة في السابق. النظرة الآن مختلفة، لأنه، في السابق، لم تكن النظرة إلى أفريقيا بالنسبة للدول المتقدمة سوى أنها فرصة جيدة للاستعمار، للحصول على ثروات مصادرها الطبيعية.
كانت تركيا قد باشرت، في إطار سياستها الخارجية متعددة الأبعاد، منذ بداية هذا القرن، سياسة الانفتاح على القارة الأفريقية، لتحقيق نقلة نوعية في علاقتها مع دول تلك القارة. وفي 2003، تم وضع استراتيجية لتطوير العلاقات الاقتصادية مع الدول الأفريقية، كما أطلقت على 2005 عام أفريقيا، وتوّجت الزيارات المتبادلة رفيعة المستوى بتوقيع اتفاقيات اقتصادية وتجارية جديدة نقلت العلاقات مع تلك الدول، بسرعة كبيرة، إلى أطوار جديدة. وفي عام 2008، عقدت أول قمة للتعاون التركي الأفريقي في إسطنبول، بمشاركة 49 دولة أفريقية وممثلين عن 11 منظمة إقليمية ودولية، منها الاتحاد الأفريقي الذي أعلن تركيا شريكاً استراتيجيا للاتحاد.
الحضور الإسرائيلي
ويعد توقيت الحملة التي قامت بها تركيا في القارة الأفريقية مهماً للغاية، لاسيما أنه جاء في الفترة التي غاب فيه التأثير العربي عن القارة، وخصوصا القسم المسلم منها، بسبب الأزمات التي تعيشها دول عربية عديدة، في مقدمتها مصر، وبذلك أصبحت تركيا بالنسبة للقارة "مركز جذب" جديداً.
كان القرن الذهبي بدوله، إثيوبيا والصومال وإريتريا وجيبوتي، ساحة لصراع قوى عالمية على الدوام، نظرا لأهميته الاستراتيجية ووقوعه على الطرق العالمية للبترول. وكانت إسرائيل تهدف إلى جعل إثيوبيا "كينيا ثانية"، بتجهيز جيشها بالسلاح، وتزويدها بنظام تعليمي وسياسة زراعية، إلا أنّ الاستثمارات الصناعية التي قامت بها تركيا في إثيوبيا بمقدار 3 مليارات قد زعزعت بدون شك غرض إسرائيل التي كانت قد مدت نفوذها في القارة السمراء، مستغلة كره السكان المحليين القوى المستعمرة القديمة، وكانت دول أفريقية كثيرة في العقود الأخيرة، وعددها حوالي 70 دولة، تشتري أسلحة من إسرائيل، ويدرّب جيوشها وأجهزة الاستخبارات فيها خبراء إسرائيليون. وقد خاطب وزير الداخلية الكيني، جورج سايتوتي، كبار المسؤولين الإسرائيليين في أثناء زيارته إسرائيل في فبراير/ شباط الماضي، قائلاً: إن الجهاديين يسيطرون على الصومال، وهم يهددون بالسيطرة على كينيا وسائر أنحاء أفريقيا، ولا أظن أنه يوجد من هو أكثر منكم خبرة في محاربة الإرهاب. ولا يمكن تجاهل أن الوجود التركي في الصومال وجّه ضربة إلى الاستراتيجية العالمية، وليس إلى إسرائيل، فحسب.
ولا شك أن التحديات الكثيرة التي تواجهها إسرائيل والدول الأخرى في أفريقيا قد تفتح المجال واسعاً أمام الأتراك، لإعادة تحقيق حلمهم العثماني على الأراضي الأفريقية، إذ إن نمط الإسلام التركي المعتدل الذي يتواءم مع تقاليد الديمقراطية الغربية، ونمط اقتصاد السوق يقدم نموذجاً يحتذى به لمسلمي أفريقيا. وعليه، فإن مدارس ومساجد كثيرة يقوم على إدارتها الأتراك في مختلف أنحاء إفريقيا لا تثير أي مخاوف.