تركيا في طور الجمهورية الثانية: معاني تصويت الرابح والخاسر

18 ابريل 2017
أردوغان عند ضريح مندريس أمس في إسطنبول (إرهان إلالدي/الأناضول)
+ الخط -
لم يكن تمرير التعديلات الدستورية التركية "بشقّ النفس"، بفارق مليون ونحو 300 ألف صوت فقط، من أصل 49 مليون مقترع تقريباً (من مجمل 56 مليون يحق لهم التصويت)، حدثاً عادياً على الإطلاق، بل يبدو أنه سيكون مقدمة لحصول تغييرات واسعة ليس فقط على مستوى إدارة الجمهورية التركية الذي سيتحول نظامها إلى رئاسي فحسب، بل أيضاً على صعيد خارطة السياسة التركية، سواء على مستوى الثقافة السياسية أو إعادة تشكيل التكتلات والتحالفات السياسية تمهيداً للانتخابات الرئاسية والبرلمانية، التي ستجري بشكل متزامن في نوفمبر/تشرين الثاني 2019.

تحولٌ ترجّحه التحولات الكبيرة في خارطة الناخبين في الاستفتاء الذي مرّ بغالبية 51.4 في المائة في مقابل رفض 48.6 في المائة. ومن المؤكد أن تركيا تبتعد بشكل متسارع عن ميراث الجمهورية الكمالية بخطوات متسارعة، نحو جمهورية أخرى لربما تكون أكثر استقراراً، ولكن من غير الواضح بعد موقف النخبة الكمالية العسكرية التي ما زالت تسيطر على الجيش منها. وكان تعبيراً رمزياً قيام الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بزيارة قبري الأبوين الشرعيين لحزب العدالة والتنمية الذي يمثل تحالف يمين الوسط المحافظ، صبيحة الإثنين، تحديداً قبر كل من الرئيس التركي الراحل، تورغوت أوزال (في إسطنبول)، أحد زعماء يمين الوسط الليبرالي، وكذلك رئيس الوزراء السابق، نجم الدين أربكان، (أيضاً في إسطنبول)، رمز الإسلام السياسي الأول الذي انشق عنه فريق "العدالة والتنمية" ليؤسسوا حزبهم، بينما لم يسافر إلى أنقرة لزيارة قبر أتاتورك، في أنيتكبير، كما زار ضريح رئيس الوزراء، عدنان مندريس، الذي أعدمه المعسكر الكمالي عام 1960. وزار أردوغان ضريحي السلطان محمد الفاتح والسلطان ياووز سليم.

وكان رفض المدن الكبيرة للتعديلات الدستورية هو المفاجأة غير المتوقعة، وبالذات رفض غالبية سكان كل من إسطنبول وأنقرة، أكبر مدينتين، والعاصمتين الاقتصادية والسياسية، بينما حصدت جبهة التأييد على النسبة الأكبر 81.67 في المائة في ولاية بايبورت (شمال شرقي الأناضول)، في حين كانت ولاية تونجلي (أو ديرسيم) هي الولاية التي حصلت فيها جبهة الرفض على النسبة الأكبر من الأصوات بواقع 80.42 في المائة.
وخسرت جبهة التأييد المكونة بشكل أساسي من كل من حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية على ما يقارب عشر نقاط، مقارنة بالأصوات التي حصل عليها الحزبان معاً في الانتخابات البرلمانية الماضية في نوفمبر 2015، متراجعة من 61.4 في المائة إلى 51.4، وهو ما يفسره الخسارة التي تركزت في المدن الكبيرة كإسطنبول وأنقرة وإزمير، إضافة إلى كل من ولاية هاتاي (لواء إسكندرون) وجناكالة وأضنة وأنطاليا وميرسين وغيرها من التي فاقت فيها أصوات الرافضين تلك المؤيدة.

ونظراً إلى النتائج شبه الرسمية، فقد صوّتت 13 من البلديات الكبيرة لصالح التعديلات، بينما صوّتت 17 أخرى من البلديات الكبيرة ضدها. كما شهدت الأصوات التي اعتبرت لاغية زيادة كبيرة؛ فبينما كانت 697 ألف صوت في انتخابات نوفمبر 2015، باتت 847 ألف صوت و537 صوتاً في استفتاء التعديلات الدستورية. الأمر الذي يعيده المراقبون إلى تردد الناخبين بين الجبهة المؤيدة والمعارضة مقابل رغبتهم في المشاركة في التصويت.



ومقارنة بانتخابات الرئاسة التي جرت في أغسطس/آب 2014، فإن 6 ولايات ممن صوتت للرئيس التركي بأغلبية ساحقة، رفضت النظام الرئاسي، ومنها كل من ولاية يولوفا (غرب) وأنقرة وأرتفين (شمال شرق) وبيلجيك وغيرها.

أصوات الحركة القومية
حافظ العدالة والتنمية على تفوقه الكبير في قلب الأناضول المحافظ، كولاية قونيا وأرضروم وسيواس وقايري، بينما سقط التحالف المؤيد للتعديلات الدستورية في عدد من الولايات وبالذات تلك الغربية. على سبيل المثال، كان من المفترض أن تحصل جبهة التأييد في ولاية أضنة بموجب نتائج الانتخابات الأخيرة على نحو 56 في المائة من الأصوات (19.3 للحركة القومية و37.3 للعدالة والتنمية) إلا أن جبهة الرفض حصلت على 58 في المائة. كذلك الأمر في ولاية أنطاليا، التي كان من المفترض أن تحصل جبهة التأييد على 59 في المائة (41.7 للعدالة والتنمية و17.3 للحركة القومية) إلا أن جبهة الرفض حصلت على 59.1 في المائة. ويعيد المراقبون سبب تراجع نسبة أصوات الجبهة المؤيدة بعشر نقاط مقابل نتائج انتخابات نوفمبر، بشكل أساسي، إلى رفض نسبة واسعة من قواعد حزب الحركة القومية (يميني قومي متطرف) للتعديلات الدستورية على الرغم من تأييد قيادة الحزب، وبالذات تلك المقيمة في غرب تركيا. ويشير بعضهم إلى أن الحزب لم ينجح إلا بدفع 2 من أصل 10، أي خُمس مَن صوت له في انتخابات نوفمبر 2015 للتصويت لصالح التعديلات، بينما لم يصوت 2 في المائة من ناخبي العدالة والتنمية لصالح التعديلات الدستورية، التي تشير بعض الآراء إلى أن هذه الخسارة للعدالة والتنمية تركزت في صفوف المتعلمين والشباب من سكان المدن الكبيرة والمنزعجين من التحالف مع الحركة القومية.

أصوات الأكراد
ليس من المبالغ فيه أن الانتصار الأهم أو ربما الوحيد للعدالة والتنمية وفق نتائج الاستفتاء على التعديلات الدستورية، كان في جنوبي شرق الأناضول، الذي تسكنه غالبية كردية ساحقة، ورغم أن غالبية أصوات المنطقة بقيت من الرافضة، إلا أن الأصوات الكردية شهدت انزياحاً كبيراً لصالح التعديلات الدستورية في عموم المنطقة مقارنة بالانتخابات البرلمانية العامة التي جرت في يونيو/حزيران 2015، فيما بدا رسالة واضحة موجهة للكردستاني برفض شعبي للقتال المسلح، وكذلك إشارة لسقوط المشروع الرئيس الذي قام عليه "الشعوب الديمقراطي"، ممثلاً بتتريك الحركة القومية الكردية، بما رافقه من مصالحات واسعة بين الكردستاني واليمين الكردي والعشائر العاملة مع الدولة في إطار تنظيمات حماة القرى التابع للداخلية التركية، والتي يبدو أنها ابتعدت مرة أخرى عن "الشعوب الديمقراطي" بعد الضربات العسكرية التي تلقتها من الكردستاني.



تمكن العدالة والتنمية من رفع أصواته في الاستفتاء الأخير في جنوبي الأناضول وشرقه (ولايات الجدول فقط) بنسبة 373 ألف صوت لتبلغ جبهة التأييد مليون صوت و226 ألف صوت، وجبهة الرفض مليون صوت و810 آلاف صوت. وفي شرناق، ارتفعت أصوات العدالة والتنمية من 9.7 في المائة في انتخابات يونيو 2015 إلى 28.6 في المائة في الاستفتاء، وكذلك الأمر في ماردين من 19.8 في المائة في يونيو 2015 إلى 41 في المائة في الاستفتاء. وبينما ارتفعت أصوات العدالة والتنمية من 14.8 في المائة في انتخابات يونيو باتت في الاستفتاء 32.4 في المائة، بزيادة بعشر نقاط عن انتخابات نوفمبر. وكذلك الأمر في ولاية هكاري من 9.7 في المائة في انتخابات 2015 إلى 32.5 في المائة في الاستفتاء.

العديد من الأسباب أدت دوراً في هذا التغيير. وبحسب النائب المحافظ عن "الشعوب الديمقراطي"، ألتان تان، في تصريحه لـ"العربي الجديد"، فإن "هذه النتائج كانت متوقعة، ولها العديد من الأسباب، فلم يكن التصويت لصالح التعديلات الدستورية بقدر ما كان رسالة ضد سياسة الخنادق والاشتباكات التي جرت بعد نزول كوادر العمال الكردستاني إلى المدن، وذلك إضافة إلى عدم قيام "الشعوب الديمقراطي" بحملة جيدة، بعد أن بات معظم كوادره في السجون بما في ذلك قياداته كزعيم الحزب، صلاح الدين دميرتاش وفيغان يوكسكداغ".

ويؤكد ذلك أيضاً، الصحافي، عبد القادر كونوكسفر، من أبناء دياربكر، موضحاً لـ"العربي الجديد" أن "هناك أيضاً أصوات المستفيدين الذين انفضوا عن "الشعوب الديمقراطي" بعد خسارته البلديات إثر قيام وزارة الداخلية بوضع قيّمين عليها بعد أن قام الكردستاني باستخدامها لصالح عملياته، وهؤلاء المنتفعون كانوا يقومون بجزء هام من الحملة ومن تجيير الأصوات، وانتهاءً ضغط كوادر الكردستاني على الشعب والعشائر بعد تمكن الدولة من بسط سلطتها، لكن السبب الرئيسي يعود للغضب من سياسات الكردستاني".

لا يبدو أن التصويت في المناطق ذات الغالبية الكردية كان على الاستفتاء، بل بدا مشابهاً جداً لأي انتخابات بلدية أو برلمانية، تنافس فيها الحزبان الوحيدان المتواجدان في المنطقة أي "العدالة والتنمية" و"الشعوب الديمقراطي". ورغم أن الأخير حصل على غالبية الأصوات، إلا أن عدداً من الولايات خرج من يده للمرة الأولى، وهي كل من ولاية بيتليس والتي صوت 60 في المائة من سكانها لصالح التعديلات رغم أنها لم تشهد اشتباكات، وكذلك ولاية موش بـ50 في المائة لصالح التعديلات، بينما اقترعت ولاية سعرت المختلطة بين العرب والأكراد بنسبة 48 في المائة لصالح التعديلات.

كما خسر "الشعوب الديمقراطي" في ولاية دياربكر 43 ألف صوت إضافي مقارنة بانتخابات نوفمبر 2015، وذلك عدا عن ولايتي أورفة وإيلازغ المختلطتين اللتين صوتتا بـ70 في المائة لصالح التعديلات وولاية عنتاب التي صوتت بـ60 في المائة لصالح التعديلات. وانطلاقاً من أن النتائج في مناطق الأكراد ربما تكون الانتصار الحقيقي الذي أنجزه في استفتاء 16 أبريل/نيسان، يمكن فهم كلمة أردوغان، ليلة الانتصار، بقوله "كل الأصوات مهمة، لكن الأصوات الآتية من جنوب شرق الأناضول (مناطق الأكراد) لها أهمية خاصة".



ما بعد الاستفتاء
علمت "العربي الجديد" من مصدر مطلع في حزب "العدالة والتنمية" أن الأخير سيبدأ بالتحضير لعقد مؤتمر عام في الفترة المقبلة، للتجهيز لإعادة أردوغان لمنصب رئاسة الحزب، ولإعادة ترتيب البيت الداخلي للحزب، وللبحث عن حلول لإرضاء كتلة الأصوات الكردية التي صوتت لصالح التعديلات رغم عدم رضاها عن سياسات الحزب في ما يخص القضية الكردية. كذلك يتم العمل على تجهيز لجان لدراسة نتائج التصويت، وفهم أسباب خسارة الأصوات في المدن وبالذات في صفوف المتعلمين والشباب والعمل على سياسات جديدة لاستقطاب المبتعدين.

بينما بدا العدالة والتنمية مرتاحاً نوعاً ما لنتائج الاستفتاء، يبدو زعيم حزب الحركة القومية، دولت بهجلي، في وضع صعب؛ فمن ناحية تمكن من تمرير التعديلات الدستورية والانتصار على معارضيه في القيادات الحزبية كرئيسة البرلمان السابقة، ميرال أكشنير، إلا أنه ومن جانب آخر، تلقى ضربة كبيرة من القواعد الحزبية التي صوتت بغالبيتها ضد التعديلات. وأكد مصدر مطلع في الحركة القومية أنه لم يتم بعد اتخاذ القرار حول الخطوات المقبلة، وإن كان سيتم التوجه لعقد مؤتمر من عدمه، كذلك يبدو الأمر معقّداً في صفوف كل من حزب "الشعوب الديمقراطي" وحزب "الشعب الجمهوري".



رغم ذلك يشير مراقبون إلى أن "الشعب الجمهوري" يبدو في وضع حرج للغاية بعد الهزيمة، بينما لا يزال عاجزاً عن إنتاج خطاب سياسي بديل يتمكن من تحويل الأصوات الرافضة للتعديلات، وبالذات تلك المتواجدة في المدن الكبيرة إلى تكتل سياسي قادر على مواجهة الكتلة اليمينية التي تكونت بالتحالف بين العدالة والتنمية والحركة القومية، ليس فقط لعدم قدرة الحزب خلال العقد الأخير من تطوير أي خطاب سياسي منافس كالذي طوره العدالة والتنمية أو الشعوب الديمقراطي في مراحل مختلفة، ولكن أيضاً لأن جمع الرافضين على طاولة واحدة مستحيل، وبالذات جمع أنصار الحركة القومية التركية إلى جانب أنصار الحركة القومية الكردية، ولأن التقرب من الأخيرين سيعني أيضاً خسارة الكماليين.

ويرى مراقبون إلى أن "الشعب الجمهوري" بات عليه الاجابة عن العدد من الأسئلة الصعبة وبالذات تلك المتعلقة بمرشحه للانتخابات الرئاسية المقبلة في عام 2019 لمواجهة أردوغان، خصوصاً أن تحالفاً كالذي قام بين الشعب الجمهوري والحركة القومية في انتخابات الرئاسة في أغسطس 2014 يبدو أمراً مستبعداً. وتتداول الأوساط السياسية في أنقرة خبراً يفيد أن إقرار النظام الرئاسي، قد يُتبع بخطوات لتخفيض العتبة البرلمانية من 10 في المائة إلى 5 في المائة، وكذلك إمكانية إجراء إصلاحات على قوانين الأحزاب.

على مستوى الحكومة
نفى نائب رئيس الوزراء، محمد شيمشك، وجود أي نية لإقامة انتخابات نيابية مبكرة، فيما بدا أن هناك عزماً واضحاً من قيادة العدالة والتنمية على الاستمرار في الاتفاق مع الحركة القومية والذي يقضي بإقامة انتخابات برلمانية ورئاسية متزامنة في نهاية 2019، سيؤدي لدخول التعديلات الدستورية حيز التنفيذ. ويشير مراقبون إلى أنه من غير المتوقع إجراء أي تعديلات حكومية على المدى القريب، لكنهم لا يستبعدون ضم عدد من الوزراء من الحركة القومية قبل انتخابات 2019، في حال استمر التحالف الحالي بين الحركة القومية والعدالة والتنمية، وإذا تمكن الجانبان من الاتفاق على ترشيح أردوغان لرئاسة الجمهورية التي ستمتلك حينها جميع السلطات التنفيذية.