20 نوفمبر 2024
تركيا: عندما يسبق تغيير السياسة الخارجية محاولة الانقلاب
مع تكشف أبعاد المحاولة الانقلابية ضد حكومة حزب العدالة والتنمية وحجمها، بدأت تتكشف الأسباب الفعلية التي دعت الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، إلى تنحية رئيس حكومته السابق، أحمد داود أوغلو، وتعديل سياسته الخارجية. قبل ذلك، كانت معظم التحليلات تتجه إلى أن السبب الرئيس في إقالة "الخوجا"، أو "الأستاذ"، كما يسمونه في تركيا، يعود إلى تحفظاتٍ أبداها على مساعي الرئيس أردوغان إلى تحويل النظام السياسي التركي من نظام برلمانيٍّ إلى نظام رئاسي، يتمتع فيه الرئيس بصلاحياتٍ واسعةٍ، بعد أن غدا منتخباً من الشعب. لا شك أن داود أوغلو لم يكن متحمساً لفكرة تعديل الدستور. لكن، وكما تبدّى لاحقاً، كانت هناك عوامل أخرى، أكثر أهميةً أدت إلى إخراجه، وفي مقدمتها استشعار أردوغان بخطر داهم، يحتم عليه إجراء مراجعة كبرى في سياسته الخارجية، لتحييد بعضٍ من أهم خصومه الذين أخذوا يعبثون في الداخل التركي، مستفيدين من أوضاعٍ أمنيةٍ واقتصاديةٍ وسياسيةٍ حرجة، نجم بعضها عن خيارات تركيا الخارجية. ولم يكن حينها في وسع داود أوغلو الاضطلاع بالتغيير المطلوب، لا أخلاقياً ولا سياسياً، فكان لا بد له من التنحّي، وتمهيد الطريق للإعلان عن تغييرات كبيرة في السياسة الخارجية التي اتبعتها تركيا منذ اندلاع الربيع العربي.
ضياع "حلم" التغيير والقيادة
انطلاقاً من رؤية حزب العدالة والتنمية مصالح تركيا الخالصة، والقائمة على الجيو- اقتصاد (Geo-economics) والقوة الناعمة بدلاً من الجيو-سياسة (Geo-politics)، ووفقاً لمقاربة "صفر مشكلات" التي ابتدعها داود أوغلو، لتحل محل عقيدة أتاتورك الشهيرة "سلام في الداخل، سلام مع العالم"، لم تكن تركيا من المتحمسين لثورات الربيع العربي عموماً. ففي تونس، لم تبد تركيا موقفاً واضحاً، لعدم وجود مصالح كبيرة لها في هذا البلد العربي الشمال أفريقي. وفي مصر، دعت إلى تنحّي الرئيس حسني مبارك "نزولاً عند رغبة الشعب"، لكنها تردّدت في دعم الثورة في ليبيا، نتيجة وجود استثمارات كبرى لشركاتها في هذا البلد. وفي سورية، ظلت تركيا تحاول، عبر داود أوغلو تحديداً، إقناع النظام بإدخال إصلاحاتٍ تجنّبه والبلد كارثة محققةً، حتى فقدت الأمل في أغسطس/ آب 2011.
بحلول هذا الوقت، بدأت تركيا تلمح فرصةً كبرى لتعزيز موقعها الإقليمي، خصوصاً في ضوء صعود تيارات الإسلام السياسي، والتي راح بعضها ينظر إلى النموذج التركي، باعتباره مثالاً "إسلامياً" ناجحاً في السياسة والاقتصاد، بعد أن خاب أمل أكثرها بالنموذج الإيراني الذي أخذ ينحو منحىً طائفياً متزايداً. من ناحية أخرى، لاح الربيع العربي فرصةً للحدّ من تنامي نفوذ إيران التي أخذت تحاول الاستثمار في بعض ثورات الربيع العربي (البحرين ومصر خصوصاً). وقد دفع ذلك، وغيره من الأسباب، أنقرة إلى التخلي عن حذرها، وعن سياسة "صفر مشاكل"، التي جعلتها في مرحلةٍ ما تتمتع بأوسع شبكة علاقاتٍ إقليميةٍ، منذ تأسيس الجمهورية التركية عام 1923.
خلال السنتين التاليتين على اندلاع الربيع العربي، بدا وكأن تركيا تتجه إلى أن تكون الرابح
الأكبر من الثورات العربية، ففي القاهرة استقبل أردوغان مطلع العام 2013 استقبال السلاطين. وفي سورية، أخذ النظام يترنّح في الطريق نحو نهايةٍ بدت لكثيرين حتمية، في حين تصدّرت التيارات الإسلامية المشهد في تونس وليبيا والمغرب، وذهبت إدارة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، إلى حد اعتبار تركيا الدولة الإقليمية الأكثر أهميةً في المنطقة، ما اضطر رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، في مارس/ آذار 2013 أيضاً للاعتذار عن الاعتداء الذي نفذه الكوماندوس الإسرائيلي ضد سفينة المساعدات التركية إلى غزة "مافي مرمرة"، بعد ثلاث سنواتٍ من الرفض والتعنت. كما بدا لواشنطن أن تجربة حزب العدالة والتنمية قد تكون النموذج الذي، بتحقيقه وتعميمه، تنتهي رحلة البحث عن نظام سياسيٍّ يحقق للمسلمين مطلب أن يكون إسلامياً من جهة، ويطمئن الغرب إلى كونه ديموقراطياً وليبرالياً -على الصعيد الاقتصادي - من جهة أخرى (أطروحة نهاية تاريخ إسلامية).
لم يمر وقت طويل، ليتضح كم كان هذا الاعتقاد ساذجاً، فقوى الثورة المضادة ما كانت لتستسلم بهذه السهولة، وبدأت الصورة تتغيّر من مصر، حيث انقلب الجيش، بدعمٍ خليجي، على العملية الديمقراطية، معلناً الحرب على تيارات الإسلام السياسي (حلفاء تركيا وأصدقاؤها خصوصاً)، في حين وضعت إيران ثقلها خلف نظام الأسد، ومكّنته من الصمود، حتى ظهر لاعب جديد (تنظيم الدولة الإسلامية) تكفّل بتغيير طبيعة الصراع في سورية والمنطقة. وكان المزاج الأميركي بدأ يتغير أصلاً في نظرته لتيارات الإسلام السياسي، بعد الهجوم على السفارة الأميركية في بنغازي في سبتمبر/ أيلول 2012، وقتل السفير الأميركي فيها، ثم جاء سقوط الموصل بيد تنظيم الدولة في يونيو/ حزيران 2014 ليقلب الأمور رأساً على عقب.
"مقتل" السياسة التركية
بعد سقوط الأحياء الشرقية من حلب بيد المعارضة المسلحة منتصف العام 2012، ومع تحوّل الصراع السوري إلى حربٍ مفتوحة، أخذت تركيا تضغط لإنشاء منطقٍة "آمنة" في شمال سورية، لتوطين سيل اللاجئين الذين أخذوا يتدفقون عليها من جهة، ولتمكين المعارضة من مزاولة نشاطها السياسي والمدني والتخطيط للعمل العسكري بمأمنٍ من طائرات النظام، من جهة ثانية. لكن الولايات المتحدة رفضت الفكرة، وتردّدت تركيا في الإقدام عليها منفردة.
وفي العموم، اتسمت السياسة التركية تجاه سورية، والتي أشرف عليها أردوغان، سواء من موقعه رئيساً للحكومة أو رئيساً للجمهورية، بالتردّد وغياب الحزم. ويتضح اليوم بجلاء أن هذا التردّد كان مرتبطاً، إلى حد كبير، بموقف المؤسسة العسكرية والعلاقة معها. وبين عامي 2008 و2013، بدا أردوغان وكأنه أحكم قبضته على الجيش، مستغلاً الكشف عن قضية "أرغنكون" أو المطرقة، والتي اتهم فيها مئات من ضباط الجيش والصحفيين وأساتذة الجامعات بالتدبير لمحاولة انقلاب، "لتنظيف" المؤسسة العسكرية من العناصر والقيادات المشكوك
بأمرها. وقد اضطلعت حركة الخدمة، وهي شبكة صوفية تعليمية ذات موارد وامتدادات هائلة أسسها عام 1970 الداعية فتح الله غولن، بدورٍ كبير في محاكمات العسكريين واعتقالهم من واقع اختراقها وتغلغلها في معظم أجهزة الدولة، وتحالفها مع حزب العدالة والتنمية منذ العام 2002. وفيما كانت "الخدمة" تضطلع "بتنظيف" المؤسسة العسكرية وغيرها من الأجهزة الأمنية والمؤسسات المدنية والقضائية، كانت تزرع أنصارها فيها وتُحكم قبضتها عليها.
عندما انتقل الخلاف بين أردوغان وغولن إلى العلن عام 2013، وبدأت الحكومة في التخلص مما يسمى "الكيان الموازي" لجماعة غولن، إثر اتهامها بمحاولة انقلاب، أخذت تتكشّف خطورة المخطط الذي كان يقوده غولن، للسيطرة على أجهزة الدولة، المدنية منها والعسكرية، فتم تبرئة كثيرين من ضباط الجيش، بما فيهم رئيس الأركان السابق، إلكر باشبوغ، الذي وقف ضد المحاولة الانقلابية أخيراً، وأخذ الجيش من حينها يحاول استعادة اعتباره. ومع تردّي الوضع الأمني، إثر إعلان كل من تنظيم الدولة الإسلامية وحزب العمال الكردستاني الحرب على تركيا في العام 2015، عاد الجيش ليمارس نفوذه كما كان في السابق، وبدأت قطاعاتٌ فيه تخطط لقلب النظام، مستفيدة من افتقاد أردوغان أصدقاء في الداخل والخارج. وحتى انفضاح الأمر يوم 15 يوليو/ تموز الجاري، كان أردوغان، في جميع مراحل الصراع السوري، مشغولاً بحربٍ داخليةٍ حاميةٍ، إما لتوكيد سلطته على الجيش، أو في مواجهة جماعة "الخدمة" و"التنظيم الموازي". وأصبح معروفاً الآن أن الجيش كان قادراً، في السنتين الأخيرتين، على رفض كل طلبات الرئيس التدخل مباشرةً في الصراع السوري، بذريعة أنه لا يستطيع التدخل، من دون دعمٍ أميركي أو غطاء من حلف الناتو، وهو أمر غدا فعلاً غير ممكن، بعد التدخل العسكري الروسي في سورية.
روسيا تقلب المعادلات
في ظل تركيزٍ أميركي مطلق على مواجهة تنظيم الدولة، بعد الإحراج الذي تسبّب به سقوط الموصل لإدارة الرئيس أوباما وعقيدته في السياسة الخارجية، وفي ضوء تحفظ الجيش التركي على فكرة التدخل عسكرياً في سورية، من دون دعم أميركي، ألقى أردوغان بثقله وراء المعارضة المسلحة السورية، بعد أن حقق تقارباً مع السعودية، في أعقاب وصول الملك سلمان إلى الحكم مطلع العام 2015، واتفاق الطرفين على هزيمة إيران في سورية، استباقاً لأي تداعياتٍ للاتفاق حول برنامجها النووي.
وعبر رئيس مخابراته، حقان فيدان الذي كان يشرف على تنفيذ سياسته تجاه سورية، قرّر أردوغان تغيير موازين القوى على الأرض، للخروج من حالة الاستعصاء السياسي في المسألة السورية. وعليه، وابتداء من ربيع عام 2015، بدأت مواقع النظام السوري تتهاوى في الشمال، ابتداءً من جسر الشغور، وصولاً الى إدلب وحتى الساحل.
استشعرت إيران عجزها عن الاستمرار في دعم صمود النظام أمام إصرار تركيا والسعودية على هزيمتها في سورية، فاستنجدت بروسيا التي بدت جاهزةً للتحرّك، بمجرد أن علمت بموافقة واشنطن على مقترح تركيٍّ لإنشاء منطقة "خاليةٍ من داعش" داخل الأراضي السورية، بعد أن ظفرت إدارة أوباما بالاتفاق حول برنامج إيران النووي.
جاء يوم 30 سبتمبر/ أيلول 2015، تاريخ التدخل العسكري الروسي في سورية، بمثابة إعلان مدوٍّ عن فشل السياسة التركية في المسألة السورية، وحمل تغييراً جذرياً لحالة المد والجزر التي حكمت الصراع السوري منذ بدايته، إذ لم تفقد تركيا نهائياً فرصة فرض المنطقة العازلة التي طالما سعت إلى إقناع واشنطن بها، بل دخلت في مواجهةٍ مع روسيا، بعد أن أسقطت طائرةً لها دخلت المجال الجوي التركي يوم 24 نوفمبر/ تشرين الأول 2015.
قبل حادث إسقاط الطائرة، كان هدف روسيا يتمثل في سد الباب في وجه التأثير التركي في الصراع السوري، مباشرة (بإنشاء منطقة عازلة) أو ليس مباشرةً، عبر دعم المعارضة المسلحة. بعد إسقاط الطائرة، أصبح الهدف الروسي نقل الصراع إلى داخل تركيا نفسها، إذ لم تعد روسيا تقتصر على دعم وحدات حماية الشعب، التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في مسعاها للسيطرة على كامل الشريط الحدودي لفصل تركيا عن سورية، بل أخذت تزوّد حزب العمال الكردستاني بالسلاح، لتصعيد عملياته ضد الجيش التركي داخل تركيا. وكان لافتاً بث حزب العمال مقطع فيديو يظهر إسقاط مقاتليه مروحية تركية بصاروخ سام، روسي الصنع، محمول على الكتف في مايو/ أيار الماضي.
طبعاً، يمكن الحديث أيضاً عن الآثار التي خلفتها الأزمة مع روسيا على الاقتصاد التركي، في وقتٍ تباطأت فيه حركة البضائع التركية إلى أسواق العالم العربي، بسبب حروب المنطقة وصراعاتها، لكن أهمية هذه الآثار، مهما عظمت، تتضاءل أمام حجم المعضلة الأمنية والسياسية التي نتجت من دعم روسيا الأكراد ضد الحكومة التركية.
وأميركا أيضاً
في مقابل رسم روسيا حدود الدور التركي في سورية بالنار، لم تكتف الولايات المتحدة
بالتخاذل عن دعم تركيا في مواجهتها مع روسيا، بل أصرّت واشنطن على دعم الأكراد واعتمادهم وكلاء محليين في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية، بدلاً من فصائل المعارضة السورية الذين رشحتهم تركيا للقيام بهذه المهمة. وقد قدّمت واشنطن كل أشكال الدعم لوحدات حماية الشعب الكردية، بما فيها إسقاط الأسلحة لهم من الجو، كما زار جنرالاتٌ أميركيون، بمن فيهم الجنرال جوزيف فوتيل، قائد القوات المركزية الأميركية في الشرق الأوسط، الأكراد في شمال شرق سورية، ما أعطاهم جرعةً كبيرة من الثقة والشعور بأهمية الدور المنوط بهم.
فضلاً عن ذلك، بدأ أردوغان يشعر أنه مستهدفٌ شخصياً، في ضوء تصاعد الحملة الإعلامية ضده في الغرب، واتهامه بالنزوع إلى التسلط، كما جرى توجيه انتقاداتٍ له بتسهيل وصول متطوعين إلى تنظيم الدولة في سورية، إنْ لم يكن تعاطفاً، فلأسبابٍ براغماتية، من قبيل استخدام التنظيم في مواجهة الأكراد. وتنامت الهواجس لدى الرجل، خصوصاً بعد أن عاين الصمت الأميركي على الانقلاب العسكري في مصر، بأن إدارة أوباما ربما تخطّط لإسقاطه بانقلاب عسكري. وقد سرت هذه الشائعات في الإعلام الأميركي والتركي في مارس/ آذار الماضي، حتى أن الناطق باسم الخارجية الأميركية، جون كيربي، اضطر إلى نفيها، بيد أن أردوغان لم يعد بحاجةٍ إلى "يهجس" بها، أو يتكهن حولها، بعد يوم الجمعة الماضي.
وفيما بات أردوغان يستشعر ليس فقط حال العزلة والحصار التي أطبقت عليه، مع وجود أنظمةٍ وحكوماتٍ تناصبه العداء، في كل زاويةٍ تقريبا من حدوده مع العالم الخارجي (سورية –العراق –إيران –أرمينيا – روسيا –اليونان) فضلاً عن علاقاتٍ قلقة مع أوروبا، بسبب موضوع اللجوء، ومع الولايات المتحدة، بسبب موضوع "داعش" والأكراد، بل عاين أيضاً رأس التناقضات في الممارسة السياسية، عندما جمعت روسيا بين من يفترض أنهم أعداء، وجعلت منهم في مواجهة تركيا حلفاء. ففي وقتٍ كانت روسيا تؤمن فيه غطاءً لحماية قوات النظام السوري، والمليشيات الإيرانية المتحالفة معه، كان تنسيقها العسكري يبلغ أشدّه مع الإسرائيليين الذين لم تسؤهم رؤية "أصدقاء" حركة حماس يعانون كل هذه المتاعب.
تغيير الاتجاه إجهاضاً للخطر
في مواجهة مخاطر كبرى، وفي ظل غيابٍ كاملٍ لأي أصدقاء موثوق في قدراتهم أو نياتهم، قرّر أردوغان أن يجهض المحاولات التي استشعرها لإطاحته والدور التركي في المنطقة، فقرّر تنحية داود أوغلو، وتعديل اتجاه سياسته الخارجية، لكن قرار إطاحته كان قد اتخذ فعلاً، وما كان في وسعه أن يفعل شيئاً لتغييره. ولولا نضج النخب السياسية التركية، وإخلاص جناحٍ في الجيش التركي، ووقوف أكثر الشعب إلى جانبه، لكان أردوغان لقي مصير الرئيس المصري المعزول، محمد مرسي، لكن الله سلّم.
ضياع "حلم" التغيير والقيادة
انطلاقاً من رؤية حزب العدالة والتنمية مصالح تركيا الخالصة، والقائمة على الجيو- اقتصاد (Geo-economics) والقوة الناعمة بدلاً من الجيو-سياسة (Geo-politics)، ووفقاً لمقاربة "صفر مشكلات" التي ابتدعها داود أوغلو، لتحل محل عقيدة أتاتورك الشهيرة "سلام في الداخل، سلام مع العالم"، لم تكن تركيا من المتحمسين لثورات الربيع العربي عموماً. ففي تونس، لم تبد تركيا موقفاً واضحاً، لعدم وجود مصالح كبيرة لها في هذا البلد العربي الشمال أفريقي. وفي مصر، دعت إلى تنحّي الرئيس حسني مبارك "نزولاً عند رغبة الشعب"، لكنها تردّدت في دعم الثورة في ليبيا، نتيجة وجود استثمارات كبرى لشركاتها في هذا البلد. وفي سورية، ظلت تركيا تحاول، عبر داود أوغلو تحديداً، إقناع النظام بإدخال إصلاحاتٍ تجنّبه والبلد كارثة محققةً، حتى فقدت الأمل في أغسطس/ آب 2011.
بحلول هذا الوقت، بدأت تركيا تلمح فرصةً كبرى لتعزيز موقعها الإقليمي، خصوصاً في ضوء صعود تيارات الإسلام السياسي، والتي راح بعضها ينظر إلى النموذج التركي، باعتباره مثالاً "إسلامياً" ناجحاً في السياسة والاقتصاد، بعد أن خاب أمل أكثرها بالنموذج الإيراني الذي أخذ ينحو منحىً طائفياً متزايداً. من ناحية أخرى، لاح الربيع العربي فرصةً للحدّ من تنامي نفوذ إيران التي أخذت تحاول الاستثمار في بعض ثورات الربيع العربي (البحرين ومصر خصوصاً). وقد دفع ذلك، وغيره من الأسباب، أنقرة إلى التخلي عن حذرها، وعن سياسة "صفر مشاكل"، التي جعلتها في مرحلةٍ ما تتمتع بأوسع شبكة علاقاتٍ إقليميةٍ، منذ تأسيس الجمهورية التركية عام 1923.
خلال السنتين التاليتين على اندلاع الربيع العربي، بدا وكأن تركيا تتجه إلى أن تكون الرابح
لم يمر وقت طويل، ليتضح كم كان هذا الاعتقاد ساذجاً، فقوى الثورة المضادة ما كانت لتستسلم بهذه السهولة، وبدأت الصورة تتغيّر من مصر، حيث انقلب الجيش، بدعمٍ خليجي، على العملية الديمقراطية، معلناً الحرب على تيارات الإسلام السياسي (حلفاء تركيا وأصدقاؤها خصوصاً)، في حين وضعت إيران ثقلها خلف نظام الأسد، ومكّنته من الصمود، حتى ظهر لاعب جديد (تنظيم الدولة الإسلامية) تكفّل بتغيير طبيعة الصراع في سورية والمنطقة. وكان المزاج الأميركي بدأ يتغير أصلاً في نظرته لتيارات الإسلام السياسي، بعد الهجوم على السفارة الأميركية في بنغازي في سبتمبر/ أيلول 2012، وقتل السفير الأميركي فيها، ثم جاء سقوط الموصل بيد تنظيم الدولة في يونيو/ حزيران 2014 ليقلب الأمور رأساً على عقب.
"مقتل" السياسة التركية
بعد سقوط الأحياء الشرقية من حلب بيد المعارضة المسلحة منتصف العام 2012، ومع تحوّل الصراع السوري إلى حربٍ مفتوحة، أخذت تركيا تضغط لإنشاء منطقٍة "آمنة" في شمال سورية، لتوطين سيل اللاجئين الذين أخذوا يتدفقون عليها من جهة، ولتمكين المعارضة من مزاولة نشاطها السياسي والمدني والتخطيط للعمل العسكري بمأمنٍ من طائرات النظام، من جهة ثانية. لكن الولايات المتحدة رفضت الفكرة، وتردّدت تركيا في الإقدام عليها منفردة.
وفي العموم، اتسمت السياسة التركية تجاه سورية، والتي أشرف عليها أردوغان، سواء من موقعه رئيساً للحكومة أو رئيساً للجمهورية، بالتردّد وغياب الحزم. ويتضح اليوم بجلاء أن هذا التردّد كان مرتبطاً، إلى حد كبير، بموقف المؤسسة العسكرية والعلاقة معها. وبين عامي 2008 و2013، بدا أردوغان وكأنه أحكم قبضته على الجيش، مستغلاً الكشف عن قضية "أرغنكون" أو المطرقة، والتي اتهم فيها مئات من ضباط الجيش والصحفيين وأساتذة الجامعات بالتدبير لمحاولة انقلاب، "لتنظيف" المؤسسة العسكرية من العناصر والقيادات المشكوك
عندما انتقل الخلاف بين أردوغان وغولن إلى العلن عام 2013، وبدأت الحكومة في التخلص مما يسمى "الكيان الموازي" لجماعة غولن، إثر اتهامها بمحاولة انقلاب، أخذت تتكشّف خطورة المخطط الذي كان يقوده غولن، للسيطرة على أجهزة الدولة، المدنية منها والعسكرية، فتم تبرئة كثيرين من ضباط الجيش، بما فيهم رئيس الأركان السابق، إلكر باشبوغ، الذي وقف ضد المحاولة الانقلابية أخيراً، وأخذ الجيش من حينها يحاول استعادة اعتباره. ومع تردّي الوضع الأمني، إثر إعلان كل من تنظيم الدولة الإسلامية وحزب العمال الكردستاني الحرب على تركيا في العام 2015، عاد الجيش ليمارس نفوذه كما كان في السابق، وبدأت قطاعاتٌ فيه تخطط لقلب النظام، مستفيدة من افتقاد أردوغان أصدقاء في الداخل والخارج. وحتى انفضاح الأمر يوم 15 يوليو/ تموز الجاري، كان أردوغان، في جميع مراحل الصراع السوري، مشغولاً بحربٍ داخليةٍ حاميةٍ، إما لتوكيد سلطته على الجيش، أو في مواجهة جماعة "الخدمة" و"التنظيم الموازي". وأصبح معروفاً الآن أن الجيش كان قادراً، في السنتين الأخيرتين، على رفض كل طلبات الرئيس التدخل مباشرةً في الصراع السوري، بذريعة أنه لا يستطيع التدخل، من دون دعمٍ أميركي أو غطاء من حلف الناتو، وهو أمر غدا فعلاً غير ممكن، بعد التدخل العسكري الروسي في سورية.
روسيا تقلب المعادلات
في ظل تركيزٍ أميركي مطلق على مواجهة تنظيم الدولة، بعد الإحراج الذي تسبّب به سقوط الموصل لإدارة الرئيس أوباما وعقيدته في السياسة الخارجية، وفي ضوء تحفظ الجيش التركي على فكرة التدخل عسكرياً في سورية، من دون دعم أميركي، ألقى أردوغان بثقله وراء المعارضة المسلحة السورية، بعد أن حقق تقارباً مع السعودية، في أعقاب وصول الملك سلمان إلى الحكم مطلع العام 2015، واتفاق الطرفين على هزيمة إيران في سورية، استباقاً لأي تداعياتٍ للاتفاق حول برنامجها النووي.
وعبر رئيس مخابراته، حقان فيدان الذي كان يشرف على تنفيذ سياسته تجاه سورية، قرّر أردوغان تغيير موازين القوى على الأرض، للخروج من حالة الاستعصاء السياسي في المسألة السورية. وعليه، وابتداء من ربيع عام 2015، بدأت مواقع النظام السوري تتهاوى في الشمال، ابتداءً من جسر الشغور، وصولاً الى إدلب وحتى الساحل.
استشعرت إيران عجزها عن الاستمرار في دعم صمود النظام أمام إصرار تركيا والسعودية على هزيمتها في سورية، فاستنجدت بروسيا التي بدت جاهزةً للتحرّك، بمجرد أن علمت بموافقة واشنطن على مقترح تركيٍّ لإنشاء منطقة "خاليةٍ من داعش" داخل الأراضي السورية، بعد أن ظفرت إدارة أوباما بالاتفاق حول برنامج إيران النووي.
جاء يوم 30 سبتمبر/ أيلول 2015، تاريخ التدخل العسكري الروسي في سورية، بمثابة إعلان مدوٍّ عن فشل السياسة التركية في المسألة السورية، وحمل تغييراً جذرياً لحالة المد والجزر التي حكمت الصراع السوري منذ بدايته، إذ لم تفقد تركيا نهائياً فرصة فرض المنطقة العازلة التي طالما سعت إلى إقناع واشنطن بها، بل دخلت في مواجهةٍ مع روسيا، بعد أن أسقطت طائرةً لها دخلت المجال الجوي التركي يوم 24 نوفمبر/ تشرين الأول 2015.
قبل حادث إسقاط الطائرة، كان هدف روسيا يتمثل في سد الباب في وجه التأثير التركي في الصراع السوري، مباشرة (بإنشاء منطقة عازلة) أو ليس مباشرةً، عبر دعم المعارضة المسلحة. بعد إسقاط الطائرة، أصبح الهدف الروسي نقل الصراع إلى داخل تركيا نفسها، إذ لم تعد روسيا تقتصر على دعم وحدات حماية الشعب، التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في مسعاها للسيطرة على كامل الشريط الحدودي لفصل تركيا عن سورية، بل أخذت تزوّد حزب العمال الكردستاني بالسلاح، لتصعيد عملياته ضد الجيش التركي داخل تركيا. وكان لافتاً بث حزب العمال مقطع فيديو يظهر إسقاط مقاتليه مروحية تركية بصاروخ سام، روسي الصنع، محمول على الكتف في مايو/ أيار الماضي.
طبعاً، يمكن الحديث أيضاً عن الآثار التي خلفتها الأزمة مع روسيا على الاقتصاد التركي، في وقتٍ تباطأت فيه حركة البضائع التركية إلى أسواق العالم العربي، بسبب حروب المنطقة وصراعاتها، لكن أهمية هذه الآثار، مهما عظمت، تتضاءل أمام حجم المعضلة الأمنية والسياسية التي نتجت من دعم روسيا الأكراد ضد الحكومة التركية.
وأميركا أيضاً
في مقابل رسم روسيا حدود الدور التركي في سورية بالنار، لم تكتف الولايات المتحدة
فضلاً عن ذلك، بدأ أردوغان يشعر أنه مستهدفٌ شخصياً، في ضوء تصاعد الحملة الإعلامية ضده في الغرب، واتهامه بالنزوع إلى التسلط، كما جرى توجيه انتقاداتٍ له بتسهيل وصول متطوعين إلى تنظيم الدولة في سورية، إنْ لم يكن تعاطفاً، فلأسبابٍ براغماتية، من قبيل استخدام التنظيم في مواجهة الأكراد. وتنامت الهواجس لدى الرجل، خصوصاً بعد أن عاين الصمت الأميركي على الانقلاب العسكري في مصر، بأن إدارة أوباما ربما تخطّط لإسقاطه بانقلاب عسكري. وقد سرت هذه الشائعات في الإعلام الأميركي والتركي في مارس/ آذار الماضي، حتى أن الناطق باسم الخارجية الأميركية، جون كيربي، اضطر إلى نفيها، بيد أن أردوغان لم يعد بحاجةٍ إلى "يهجس" بها، أو يتكهن حولها، بعد يوم الجمعة الماضي.
وفيما بات أردوغان يستشعر ليس فقط حال العزلة والحصار التي أطبقت عليه، مع وجود أنظمةٍ وحكوماتٍ تناصبه العداء، في كل زاويةٍ تقريبا من حدوده مع العالم الخارجي (سورية –العراق –إيران –أرمينيا – روسيا –اليونان) فضلاً عن علاقاتٍ قلقة مع أوروبا، بسبب موضوع اللجوء، ومع الولايات المتحدة، بسبب موضوع "داعش" والأكراد، بل عاين أيضاً رأس التناقضات في الممارسة السياسية، عندما جمعت روسيا بين من يفترض أنهم أعداء، وجعلت منهم في مواجهة تركيا حلفاء. ففي وقتٍ كانت روسيا تؤمن فيه غطاءً لحماية قوات النظام السوري، والمليشيات الإيرانية المتحالفة معه، كان تنسيقها العسكري يبلغ أشدّه مع الإسرائيليين الذين لم تسؤهم رؤية "أصدقاء" حركة حماس يعانون كل هذه المتاعب.
تغيير الاتجاه إجهاضاً للخطر
في مواجهة مخاطر كبرى، وفي ظل غيابٍ كاملٍ لأي أصدقاء موثوق في قدراتهم أو نياتهم، قرّر أردوغان أن يجهض المحاولات التي استشعرها لإطاحته والدور التركي في المنطقة، فقرّر تنحية داود أوغلو، وتعديل اتجاه سياسته الخارجية، لكن قرار إطاحته كان قد اتخذ فعلاً، وما كان في وسعه أن يفعل شيئاً لتغييره. ولولا نضج النخب السياسية التركية، وإخلاص جناحٍ في الجيش التركي، ووقوف أكثر الشعب إلى جانبه، لكان أردوغان لقي مصير الرئيس المصري المعزول، محمد مرسي، لكن الله سلّم.