لم يكن إعلان الاعتراف المتبادل، أمس، بين البحرين وإسرائيل، حدثاً مفاجئاً في واشنطن. بالكاد نال لمحة من الاهتمام برغم جهود الإدارة لتعظيمه. من جهة لأن واشنطن غارقة الآن حتى أذنيها في الانتخابات، ومن جهة ثانية لأن هذا التطبيع كان متوقعاً، ومسألة وقت، بعد الخطوة الإماراتية التي كانت بمثابة جسّ نبض، فتح الطريق لخطوات مماثلة تنتظر اللحظة المناسبة.
وهذه اللحظة مرتبطة، إلى حدّ بعيد وربما كلياً، بحاجة المهندس الأميركي والراعي الرئيسي لعملية "الاختراق" هذه، وقد حان أوانها الآن، في ضوء وضع الرئيس ترامب الانتخابي المتعثر، والذي يحتاج إلى أي ورقة محلية أو خارجية لتوظيفها في المعركة لوقف تقدّم منافسه جو بايدن، وتحسين رصيده قدر المستطاع.
والمعروف أن اليمين الأميركي المتدين، خاصة من أتباع الكنيسة الإنجيلية في الجنوب الأميركي، الذي يشكل نواة القاعدة الانتخابية الصلبة لترامب، يقف بقوة وراء إسرائيل وكل ما يتصل بتعزيز وضعها ومقبوليتها في المنطقة العربية. فالسياسة قد تخدم المرشح أو تؤذيه تبعاً للظروف. إنجازاتها قد تُسجّل في رصيد الرئيس، وانتكاساتها قد ترتدّ عليه سلباً، كما كان الأمر مع الرئيس جيمي كارتر في قضية رهائن السفارة الأميركية عام 1979، والتي ساهمت في خسارته للانتخابات.
يراهن ترامب على دفع السعودية إلى التطبيع مع إسرائيل قبل الانتخابات، باعتبار أن خطوة كهذه من شأنها أن تشكل اختراقاً من العيار الثقيل
وانطلاقاً مما سبق، يمكن فهم مراهنة الرئيس ترامب على كسر الممنوعات، وحمل المزيد من الدول العربية على بناء الجسور مع إسرائيل، وفك حالة القطيعة والعداء معها. وهو على ما يبدو يراهن الآن بشكل أساسي على دفع المملكة العربية السعودية إلى التطبيع مع إسرائيل قبل الانتخابات، باعتبار أن خطوة كهذه من شأنها أن تشكل اختراقاً من العيار الثقيل، نظراً لرمزية المملكة بين الشعوب العربية والإسلامية، والتي يمكن توظيفها بشكل بارز. لكن الأوراق الخارجية في هذه الانتخابات تكاد تكون معدومة بحكم طغيان هموم كورونا وشبه الانهيار الاقتصادي، فضلاً عن إشكالات الرئيس وتخبطاته، والتي كشفتها موجة التسريبات والكتب التي صدرت في الأيام الأخيرة.
حاجة البيت الأبيض إلى تجيير ما سمّاه بالاختراق واضحة في البيان الثلاثي، كما في تغريدة الرئيس ترامب، وتعليق وزير الخارجية مايك بومبيو. إذ حرص البيان، كما كانت الحال في إعلان إشهار العلاقات الإماراتية–الاسرائيلية؛ على التركيز على أن الرئيس ترامب هو عرّاب هذا "الاختراق". وصدوره باسم الدول الثلاث يشير إلى ذلك، في حين أنه يخص بالأساس الدولتين صاحبتي العلاقة، إن ذلك محاولة للتذكير بأن ترامب هو القوة الدافعة وراءه، وبالتالي هو المستحق "للفضل" عند الجمهور الأميركي المؤيد لإسرائيل، التي أخذت هذه الاعترافات بدون أن تعطي شيئاً.
ومن شأن الإعلان الجديد أن يحثّ الآخرين الواقفين في الصف على الإسراع في إعلان التطبيع مع إسرائيل، أو التمهيد لخطوتهم المرغوبة هذه قبل الانتخابات، وذلك على سبيل "رد الجميل" للرئيس ترامب.
في كتابه المتوقع صدوره قريباً، والذي تسرب بعض ما احتواه، يقول الصحافي بوب ودورد، مفجر فضيحة ووترغيت، نقلاً عن الرئيس وبالصوت المسجّل، إنه "أنقذ محمد بن سلمان" في قضية جمال خاشقجي. وهذا كلام مفاده أن الخدمة التي قدمها لها ثمن، فهو لا يعطي بدون مقابل، كما يقول.
في تغريدته بعد إعلان البيان اليوم، وصف ترامب الاعتراف المتبادل بأنه "اختراق تاريخي" حصل بوساطته، وأنه يأمل في أن يؤدي "إلى اعترافات أخرى". وهو الكلام نفسه الذي قالته الإدارة بعد إعلان إشهار العلاقات الإماراتية الإسرائيلية، الذي بدا أنه جرى اعتماده كاختبار لتكريس نمطٍ، كان الاعتراف البحريني الخطوة الثانية فيه، على أن تكرّ سبحة الاعترافات بعد أن تتحول إلى ثقافة اعتاد عليها الجمهور، بحيث لا تستوقفه باعتبارها صارت تحصيل حاصل.
ولذلك فإن من غير المستبعد أن تأتي الخطوة السعودية مع غيرها في وقت لاحق قبل الاستحقاق الانتخابي، لعلّها تشكل إضافة واضحة على خطوات خارجية أخرى مثل الانسحابات المتوقعة من العراق وأفغانستان؛ يمكن توظيفها كلها في الحملة الانتخابية الصعبة. وحتى ذلك الحين تجري الاستعدادات للاحتفال بمراسم التوقيع الإسرائيلي الإماراتي في البيت الأبيض يوم 15 الجاري، بحضور ولي عهد البحرين، وعدد غير قليل من السفراء العرب في واشنطن.