تعبت واشنطن من سلوكيات الرئيس دونالد ترامب. لكن لا حيلة لها سوى إبداء الدهشة والذهول وأحياناً التخوف والشعور بالصدمة والإحراج. لكنها هذه المرة شعرت بالذعر. تجدد لديها الخوف من لعبه بما لا يحتمل اللعب فيه: السلاح النووي. ولو بالتهويل فيه.
عاشت أميركا ومعها العالم لفترة في ظل هذا الكابوس أثناء أزمة الصواريخ الكوبية أوائل ستينات القرن الماضي. لكن حتى في ذلك الحين، لم يلوح الروس أو الأميركيون باستخدام هذا السلاح، وإن كان خطره قائماً لو وقعت المجابهة. أما في عهد ترامب، فقد غدا هذا التلويح مسألة روتينية. مرة يحصل بصورة مبطّنة من خلال تهديده لكوريا الشمالية "بالتدمير الشامل"، ومرة يجري عبر التذكير بالزر النووي الموجود على مكتبه، كما حصل أول من أمس في رده على تهديد الزعيم الكوري الشمالي بالزر نفسه.
أن يتبجح هذا الأخير بامتلاك النووي وباحتمال استعماله، مسألة لا تثير الهلع الكبير لأن كيم جونغ أون مهووس ويتوسّل هذه اللغة من باب الاستعراض علّها تكون وسيلة رادعة. ثم إنه ديكتاتور لا رقيب عليه ولا حسيب. فهو الدولة والسلطة والقانون والقرار. وبالنهاية ترسانته هزيلة ويدرك أن استخدامها يوازي الحكم على نظامه بالإعدام.
لكن الخشية تزايدت عندما لجأ رئيس الولايات المتحدة إلى ذات النغمة في عملية تراشق "صبياني" مع الرئيس الكوري، حول من زره النووي أكبر وأكثر قدرة على التدمير. هزّ العصا النووية بهذه الصورة، انطوى على خليط من الخفة والخطورة في آن. فهذا موضوع لا يجوز المزاح فيه ولا طرحه بجديّة. ولذا أثار منذ خطاب الرئيس في الأمم المتحدة، موجة عارمة من الاستياء الممزوج بدق ناقوس الخطر. كما جدّد الحديث عن "عدم اتزان" صاحب الخطاب، مع ما رافق ذلك من تحرك لتدارك الأمر والتنبه لمخاطره ومحاولة تطويقها.
فالرئيس يتمتع بصلاحيات محصورة به لتسديد ضربة نووية. في زمن الحرب الباردة، أعطاه القانون حق المبادرة لاتخاذ قرار في هذا الخصوص، وعلى وجه السرعة، بفرصة أقصاها 15 دقيقة، إما للرد على هجوم نووي قيد التنفيذ وإما لاستباق مثل هذا الهجوم.
في الحالة الأولى، يجري إشعار الرئيس بالهجوم الجاري فيعطي الأوامر للرد، من خلال استخدام الشيفرة التي يتم تزويده بها يومياً. يمر الأمر في غرفة عمليات في البنتاغون ليأخذ طريقه إلى مواقع الصواريخ العابرة حيث يتوجب على الفريق العسكري المداوم تنفيذ الأمر فوراً.
الحالة الثانية، أي صلاحيته في القيام بضربة استباقية، أثارت المخاوف من احتمال لجوء الرئيس إليها ضد كوريا الشمالية. ومن هنا، كانت الجلسة التي دعا إليها رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، السناتور بوب كوركر في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي؛ للنظر في احتمال تقييد صلاحيات الرئيس في استخدام السلاح النووي.
وفي تسويغه للجلسة عير المسبوقة التي استدعى إليها عسكريين سابقين وخبراء وأكاديميين مختصين للإدلاء بإفاداتهم، قال كوركر: "لقد حان الوقت لدراسة حقيقة صلاحيات الرئيس لشن هجوم نووي". وكان حذر في أكتوبر/تشرين الأول من الخطر الذي ينطوي عليه خطاب ترامب الذي "قد يجر البلاد إلى حرب عالمية ثالثة".
بعض هؤلاء المختصين، أبدى تحفظه إزاء وضع قيود قانونية على صلاحية الرئيس في هذا المجال. قائد القيادة الاسترتيجية السابق الجنرال روبرت كاهلر، قال إن "القيادة العسكرية بإمكانها رفض تنفيذ أي أمر ترى أنه غير قانوني أو غير مستوف لشرط مروره بالقنوات المختصة". وبالتالي لا حاجة لسن قانون لتقييد صلاحية الرئيس. غيره كان على خلاف معه وطالب الكونغرس "بتطوير صمامات الرقابة التكنولوجية" في هذا الشأن. أعضاء اللجنة من الديمقراطيين، أعربوا عن مخاوفهم من قيام ترامب "بإعطاء أوامر لشن ضربة نووية"، كما قال السناتور كريس مورفي.
ومن هذا المنطلق، أعد بعض الديمقراطيين في مجلسي الشيوخ والنواب مشروع قانون "يمنع الرئيس من استخدام النووي إلا بعد قيام الكونغرس بإعلان الحرب"، وفق ما يوجبه الدستور. لكن هذا المشروع وغيره من تعبيرات القلق، بقيت كلها حبراً على ورق وبقي الرئيس يتمتع بصلاحيته النووية الواسعة والفردية. ومن هنا، عدم الاطمئنان السائد والذي عززه اللعب بالزر النووي.
هنا ثمة التباس. الاعتقاد السائد أن مثل هذه الأوامر لا مجال سوى لوضعها في حيز التنفيذ من دون بحث أو جدال.