ترامب والعسكر: صفحة جديدة

23 يوليو 2019
عكست جلسة الاستماع بمجلس الشيوخ هواجس الكونغرس حيال إسبر(Getty)
+ الخط -
عندما أقسم دونالد ترامب اليمين رئيساً للولايات المتحدة الأميركية في يناير/كانون الثاني عام 2017، كان مفتوناً بالعسكر، ليس فقط كتعبير عن القوة الأميركية، بل كركن رئيسي من أركان إدارته. الرئيس الذي أتى إلى السلطة بدون عقيدة أو برنامج حكم، وجد ضالته في تعيين جنرالات في مناصب مدنية حساسة، ما أعطى الإدارة حينها نوعاً من الاتجاه والتنظيم، كما طمأن الكونغرس المشكك بخبرات الرئيس في قضايا الأمن القومي. بعد أكثر من عامين ونصف العام على ولايته الأولى، هناك مرحلة جديدة في العلاقة بين ترامب والجيش بعد إخراج العسكر من الإدارة.

كان الثلاثي العسكري في محيط ترامب بمثابة قوة اعتدال وانضباط داخل الإدارة: جيمس ماتيس في وزارة الدفاع والذي كان أول جنرال متقاعد يقود البنتاغون منذ جورج مارشال قبله بـ66 عاماً، وجون كيلي كبير الموظفين في البيت الأبيض، وأتش آر مكماستر الذي عُيّن مستشاراً للأمن القومي. خلال الاشهر الأولى من ولايته، كان ترامب يغدق بالمديح على ماتيس وتاريخه العسكري، كما أعطى البنتاغون صلاحيات غير مسبوقة باتخاذ قرارات عسكرية في الميدان بدون الرجوع إلى واشنطن لنيل الضوء الأخضر، كما فعل سلفه باراك أوباما.

لكن في العام الماضي، بدأت المشاكل تظهر بين ترامب والعسكر في إدارته. فالرئيس شعر أنّ الجنرالات لا يحترمونه شخصياً، وقراراته لا يأخذونها بجدية. مكماستر غادر منصبه لأنه ظل يعظ ترامب خلال الاجتماعات اليومية بينهما. وكيلي استقال بعد فشله بضبط إيقاع الرئيس في المكتب البيضاوي. والبنتاغون تجاهل انتقادات ترامب المتكررة لإنهاء الحرب في أفغانستان قبل أن يفرض البيت الابيض إجراء محادثات مع حركة "طالبان" تمهيداً للانسحاب الأميركي. 



في أكتوبر/تشرين الأوّل الماضي، وصف ترامب ماتيس بأنه "ديمقراطي"، وهي بمثابة إهانة من رئيس جمهوري يخوض معركة سياسية مفتوحة مع الليبراليين. رفض ماتيس والعسكر نشر قوات أميركية على الحدود مع المكسيك، باعتبار أنها ليست مهمة الجيش وأنها خطوة مدار جدل في واشنطن، وكانت هناك ممانعة لانتقادات الرئيس الحادة لحلف شمال الأطلسي وللخروج من الاتفاق النووي مع إيران، وحتى لفكرة تنظيم عرض عسكري للاحتفال بذكرى المحاربين القدامى. وعندما حاول ماتيس وقف قرار ترامب المفاجئ الانسحاب من سورية نهاية العام الماضي، كان مصيره الاستقالة التي كانت أشبه بالإقالة.


عادت قضية علاقة ترامب بالعسكر إلى الواجهة هذا الأسبوع بعد جلسات الاستماع في مجلس الشيوخ للتصديق على تعيين مارك إسبر وزيراً للدفاع عقب 7 أشهر من فراغ غير مسبوق في قيادة البنتاغون تمكّن ترامب خلالها من نشر 6000 جندي على الحدود مع المكسيك، ووقف مفعول قرار وزارة الدفاع نشر عدد الضحايا المدنيين لعملياتها العسكرية، كما نجح في تنظيم عرض عسكري في ذكرى عيد الاستقلال في 4 يوليو/تموز الماضي. ومع تعيين إسبر في البنتاغون، لم يعد هناك قيادي عسكري حالي أو متقاعد في أي من المناصب المدنية الرئيسية في إدارة ترامب.

لكن تزامن هذا الطلاق داخل الإدارة مع صفحة جديدة في العلاقة بين ترامب والبنتاغون بشقيه العسكري والمدني. فرحيل ماتيس من وزارة الدفاع، أو بالأحرى طريقة رحيله، كان لها وقع كبير، وتبعتها استقالات متتالية في الوزارة. ويمرّ البنتاغون حالياً في فترة انتقالية، إذ يستلم تدريجياً جيل جديد من القيادات العسكرية في ظلّ مرحلة تحول استراتيجية وبطيئة من محاربة "داعش" والإرهاب، إلى ردع خصوم أميركا مثل روسيا والصين. وبالتالي، كان رحيل ماتيس فرصة ترامب لتطويع البنتاغون أو على الأقل وضع بصمته على المؤسسة.

في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أرسل ماتيس الجنرال مارك ميلي ليلتقي ترامب بصفته مرشحاً لمركز القيادة الأوروبية في الجيش الأميركي. منذ تلك اللحظة أصبح ميلي، بشخصيته الصاخبة، جنرال ترامب المفضّل، بحيث عرض عليه بدل ذلك منصب رئاسة هيئة الأركان المشتركة، على عكس توصية ماتيس حينها الذي كان يريد رئيس هيئة الأركان المشتركة في القوات الجوية الجنرال دايف غولدفاين. في النهاية يختار ترامب من يرتاح بالتحدث معه أو معها، وليس بالضرورة الأكثر كفاءة أو الأقدم في التراتبية. وحتى قبل التصديق على تعيينه خلال جلسات استماع في الكونغرس في الشهر الحالي، يتصرّف ميلي حالياً كأنه رئيس هيئة الأركان المشتركة، ويتواصل مع ترامب بشكل مباشر، ويهيمن على الاجتماعات داخل البنتاغون، كما تشير التسريبات في الإعلام الأميركي. والتشابه بين ترامب وميلي ليس في الشخصية فقط، بل كلاهما حذر في الاندفاع نحو الخيارات العسكرية، وبذلك قد يكون ميلي الرادع الجديد لأي تهوّر يقوده مستشار الأمن القومي جون بولتون.

ويمرّ ميلي الآن في مرحلة "شهر العسل" مع ترامب، لكن التحدي أمامه هو كيفية إدارة اختلاف الرأي مع الرئيس عندما يحصل، وكيف يمكنه ضبط شخصيته الصاخبة لتفادي التصادم مع ترامب، لا سيما أنه قال خلال جلسة الاستماع: "لن يتم ترهيبنا لنتخذ قرارات غبية، سنقدّم أفضل مشورة عسكرية لدينا، ولن نحتفظ بالعواقب لأنفسنا"، وذلك عند سؤاله عن احتمال فرض ترامب سياسات عليه.

كما عكست جلسة الاستماع في مجلس الشيوخ هذا الأسبوع هواجس الكونغرس حيال وزير الدفاع الجديد، وشملت أسئلة مباشرة تستكشف إذا ما سيترك إسبر الجيش بعيداً عن السياسية، وإذا ما سيكون مستعداً لعدم التوافق مع الرئيس إن دعت الحاجة، أو سيكون مثل غيره ساعياً لإرضائه. كذلك اضطر إسبر لأن يقول في حوار مع لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ، إنه مستعدّ للاستقالة إذا اضطر أن ينفّذ سياسات لا تتماشى مع قيمه ومبادئه. كل هذه أسئلة لا تُطرح عادة على مرشحي منصب وزير الدفاع، لكن طبيعة رئاسة ترامب تفرض معياراً جديداً من التساؤلات التشريعية.

وإذا وافق الكونغرس على تعيينه، كما هو مرجح، سيقود إسبر وزارة بدون فريق عمل متكامل، إذ يحتاج إلى ملء الفراغ في 14 منصباً قيادياً في البنتاغون. وتعطي التصريحات التي أدلى بها إسبر في مجلس الشيوخ مؤشراً على أنه سيتماهى بشكل عام مع مواقف المؤسسة التي سيمثلها، أي التحذير من الانجرار في حروب خارجية، والدفع نحو إعادة تشكيل تحالفات واشنطن الدولية.

وهناك تراث أميركي في إخضاع الجيش للسلطة المدنية. فالرئيس الأسبق جورج بوش الابن، وضع قيادة مدنية في البنتاغون، متمثلة بدونالد رامسفيلد، والتي همّشت قيادة الجيش الأميركي خلال المرحلة التي سبقت غزو العراق عام 2003. ووصل التوتر حينها إلى ذروته عام 2006، عندما هددت قيادات كبيرة في الجيش الأميركي بالاستقالة إذا مضى جورج بوش الابن بخطة ضرب إيران. بعدها أتى أوباما في محاولة لرأب الصدع مع الجيش وطي صفحة العراق، لكنه أيضاً تواجه مع قائد القوات الأميركية في أفغانستان الجنرال ستانلي مكريستال، الذي انتقد الرئيس علناً، وبالتالي فصله أوباما من المنصب عام 2010.

حتى الآن، كان هناك توتر بين ترامب ووزير الدفاع، لكن لم يحصل أي توتر مباشر بين الرئيس وقيادة الجيش. والسبب الرئيسي في ذلك يعود لأسلوب ماتيس الذي حصر التواصل بين البيت الأبيض والبنتاغون بقنوات وشخصيات محددة اختارها بعناية. ومع استلام إسبر الوشيك لوزارة الدفاع، فإنّ أبرز التحديات التي ستواجهه هي كيفية تعامله مع جنرالين في الجيش قد يطغيان عليه: مارك ميلي في رئاسة هيئة الأركان، وكينيث ماكينزي رئيس القيادة الوسطى (المعنية بالشرق الأوسط). وقد يكون لكلا الجنرالين خطوط مفتوحة مباشرة مع الرئيس، إلا إذا أصرّ أسبر على عدم تجاوز صلاحياته. فميلي لديه أفكاره الخاصة لتحديث الجيش سيحاول تمريرها في البنتاغون، كما يعتبر أنّ الصين هي الخطر الأكبر على أميركا.

أما ماكينزي، فقد لعب في ظلّ الفراغ القيادي في البنتاغون خلال الأسابيع الأخيرة، دوراً رئيسياً في صياغة سياسة واشنطن حيال طهران، ما أثار هواجس البعض حيال فكرة وضع السياسات الخارجية في أيدي جنرالات قد لا يدركون البعد السياسي لتحركاتهم العسكرية. ويركّز ماكينزي حالياً على ردع إيران، عبر تطوير فكرة نشر قوات أميركية لحماية السفن التجارية أثناء عبورها مضيق هرمز، في عودة إلى سياسة انتهجتها إدارة الرئيس الأسبق رونالد ريغان، وأثارت حينها كما تثير حالياً، مخاوف من أن تؤدي إلى نشوء نزاع عسكري.

هذا التحالف المحتمل بين ترامب والقيادات الجديدة في الجيش مثل ميلي وماكينزي، والالتقاء على تفادي الحرب مع إيران مع التشدّد في ردعها، قد يتجاوز وزير الدفاع إسبر، كما صقور الإدارة بقيادة بولتون. لكن أي توتر بين ترامب والجيش نتيجة هذا التقارب، قد يؤدي إلى أزمة في البنتاغون، قد تعيد دور إسبر إلى الواجهة. علاقة ترامب مع الجيش دخلت مرحلة اختبار قد تكون حاسمة حتى موعد الانتخابات الرئاسية العام المقبل.