وتجاهل الرئيس الأميركي موقف وزير دفاعه جيمس ماتيس، الذي أوصى بضرورة صرف النظر عن ترك الساحة السورية كلياً "لاعتبارات تخصّ الأمن القومي الأميركي"، ما قد يسرّع في استقالته، لا سيما أن علاقته صارت مهتزة أخيراً مع ترامب.
الانسحاب من سورية مطروحٌ منذ مجيء ترامب، لحسابات انتخابية، وربما روسية. جدّد الرئيس في مارس/آذار الماضي تعهده بتنفيذه "قريباً جداً". لكنه تراجع في سبتمبر/أيلول الماضي، بعد تدخل أقطاب المؤسسة في الإدارة والكونغرس، وشرح الاعتبارات الجيوسياسية التي تبرر البقاء هناك.
وتحدثت الإدارة الأميركية كلها آنذاك بلسان واحد عن أهمية الوجود في سورية. مستشار الرئيس جون بولتون أكد أن القوات الأميركية لن تغادر "طالما بقيت القوات الإيرانية خارج حدود بلادها". ماتيس حذر من التسرع الذي قد "يؤدي إلى عودة داعش" الإرهابي. المبعوث الخاص جيمس جفري شدد على أن القوات الأميركية "باقية في سورية لضمان مغادرة الإيرانيين"، مضيفاً: "نحن لسنا على عجلة من أمرنا، وأنا على يقين بأن الرئيس ترامب موافق على ذلك".
كل تلك التأكيدات أطاحت بها تغريدة ترامب أمس. حيثية الرئيس بأن المهمة انتهت مع هزيمة "داعش"، بدت واهية لمعظم الأوساط، إذ إن التنظيم "لا يزال يحتفظ بأكثر من ألفي مقاتل في سورية"، وعودته واردة بل مرجحة، بحسب معظم التقديرات. ويرى هذا الفريق أن الانسحاب ليس سوى "نسخة عن قرار الانسحاب الخاطئ سنة 2011 من العراق".
في كل الأحوال، ما أثار النقمة على القرار هو أنه جاء "ليقدم هدية" إلى موسكو التي تعتبر "الرابح الأول من هذه الخطوة الطائشة"، بتعبير الجنرال المتقاعد باري ماكفري. ومن هنا، كانت الردود الساخنة التي صدرت عن الكونغرس، وخاصة عتاة الجمهوريين في مجلس الشيوخ مثل السناتور ليندسي غراهام التي وصف الانسحاب بالخطوة "الكارثية"، من الناحيتين الأمنية والجيوسياسية.
الانقلابات والتقلبات السريعة في المواقف، علامةٌ مسجلة لرئاسة ترامب. تمارسها في معظم الحالات بصورة فردية وبعقلية عقد الصفقات. وعموماً، لا تخلو من المزاجية وتعتمد على عنصر المفاجأة بهدف خلط الأوراق وتغيير الحديث واحتلال الواجهة. وقد صارت واشنطن معتادة عليها. لكنها أحياناً تتناول قضايا وملفات حساسة، وبما يطرح الكثير من التساؤلات وعلامات الاستفهام ويثير مخاوف أوساط مختلفة، ومن بينها بعض أنصاره، لجهة ما إذا كانت مبنية على اعتبارات ضيقة لخدمة أغراض مريبة أو حسابات خاطئة.
في هذه الخانة، وضع المراقبون قرار الانسحاب الذي يرى فريق واسع من المحللين أنه جاء ثمرة "صفقة مع تركيا على حساب الأكراد"، وبتأييد من موسكو التي طالما دعت إلى مثل هذه الخطوة. وبدا أن البيت الأبيض تفاجأ بحدة الردود واتساعها. تبدّى ذلك في محاولته البائسة تسويق القرار، كما في عزوف البنتاغون عن التعليق، وبصمت وزارة الخارجية التي سارعت إلى إلغاء اللقاء الصحافي قبل موعده بحوالي ساعتين، لتتفادى سيل الأسئلة والاستفسارات حول الموضوع وملابساته وتفرد البيت الأبيض بإعلانه.
ومن المؤشرات في هذا الخصوص، أن البيت الأبيض قرر في آخر لحظة إلغاء لقاء السناتور بوب كوركر، رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، مع ترامب، والذي كان الأول قد طلب عقده للاطلاع من الرئيس على الأسباب التي حملته على اتخاذ قراره، الأمر الذي فاقم الاعتراض في الكونغرس وعزز الشكوك حول الدواعي.
ولم يجد الرئيس إلى جانبه سوى فريق بسيط من المحافظين المنتمين إلى الجناح المعروف باسم "الليبراليتاريان"، مثل السناتور راند بول الذي رحب بالانسحاب انطلاقاً من موقفه المناهض لنشر القوات الأميركية في الخارج، أو لأن القرار يصحح الخطأ المتمثل في "وجود قواتنا في سورية خلافاً للقانون الدولي ومن غير أن يجيزه الكونغرس"، كما يرى جون غلازر، رئيس قسم الشؤون الخارجية في مؤسسة "كاتو" للدراسات في واشنطن، وذلك في معرض رده على سؤال لـ"العربي الجديد".
باستثناء هذه الجهات، قوبل القرار بشبه حملة مضادة، انطوت على كثير من الغمز من زاوية البيت الأبيض، وخطورة ممارسته السياسة بأسلوب الصفقات.
رئيسة مجلس النواب المقبل في يناير/ كانون الثاني، نانسي بيلوسي، لم تتردد في الربط بين توقيت القرار وبداية محاكمة الجنرال مايك فلين الذي عمل مستشاراً للحكومة التركية ولغاية أسبوعين بعد انتخاب ترامب الذي قام بتعيين الجنرال مستشاراً له في شؤون الأمن القومي. ربط بعيد، لكنه يدل على المدى الذي بلغته الردود المضادة على قرار الانسحاب "المفتقر للتماسك والإجماع، والمحكوم بتوليد المزيد من الخسائر"، بحسب كافة التقديرات الأميركية، خاصة أن طريق الحل السياسي في سورية ما زالت غير سالكة بعد الفشل أخيراً في تشكيل اللجنة الدستورية.