تراجيديا ترامب-كومي: معركة الولاء والمصداقية

10 يونيو 2017
تواصل كومي مع ترامب 9 مرات (أندرو هارير/Getty)
+ الخط -

التشويق الذي حصل خلال جلسة استماع المدير السابق لمكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي آي)، جيمس كومي، في مجلس الشيوخ لا يعكس فقط الورطة التي يعيشها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بل مدى غياب الحزب الديمقراطي عن معركة يقودها بيروقراطيو الاستخبارات ضد حاكم البيت الأبيض. اختار ترامب الخصم الخطأ في واشنطن، إذ إنه لم يكسب في التاريخ الأميركي أي رئيس حرباً مفتوحة ضد الـ"أف بي آي".

لا نزال نعيش الهزات الارتدادية ليوم 9 مايو/أيار الماضي، ليلة انقلاب ترامب على كومي وطرده من منصبه. المعركة الآن هي معركة مصداقية بين الرجلين: من يصدق الرأي العام الأميركي، وأي أدلة حسية سيجدها المحقق الخاص، روبرت مولر، في جهوده الصامتة لفك شيفرة الاتصالات بين فريق ترامب وموسكو؟ كومي يقول إن الرئيس الأميركي يكذب وإنه حاول تشويه سمعته، وإنه طرده من منصبه بسبب ملف التحقيق بالتدخل الروسي، ما اضطر المتحدثة باسم البيت الأبيض، سارة هكابي ساندرز، إلى التصريح "أستطيع القول بشكل قاطع إن الرئيس ليس كاذباً". تحدث كومي عن تواصله تسع مرات مع ترامب خلال أربعة أشهر (3 مرات وجهاً لوجه وست مرات عبر الهاتف)، مقارنة مع اجتماعين فقط مع سلفه باراك أوباما خلال ثلاث سنوات. بعد كل تواصل مع ترامب كتب كومي مذكرة تفصيلية شاركها مع قيادة مكتب التحقيقات الفيدرالي. خلال اللقاء الثاني في البيت الأبيض، في 27 يناير/كانون الثاني الماضي، بدأ ترامب بالتساؤل إذا ما كان يريد كومي البقاء في منصبه، قبل أن يبلغه بصراحة "أحتاج إلى الولاء. أتوقع الولاء". وفي الاجتماع الثالث، طلب ترامب من كومي البقاء وحده في المكتب البيضاوي بعد إيجاز استخباراتي موسع، ولمّح أمامه إلى أن مستشار الأمن القومي السابق، مايكل فلين، "رجل طيب"، وأضاف "آمل" أن تتخلى عن ملفه. بعدها اتصل ترامب بكومي، في 30 مارس/آذار الماضي، وطلب منه "إزاحة غيمة" التحقيق في الملف الروسي لأنها تقوّض قدرته على الحكم.

شهادة كومي نقلت التركيز من تفاصيل التحقيق نفسه إلى مسألة محاولة الرئيس إعاقة التحقيق في ملف التدخل الروسي، لكن لم تحسم هذا الأمر بشكل قاطع. ما هو واضح أيضاً أن تكتيك الديمقراطيين حالياً هو تسليط الضوء على هذه المسألة بالتحديد، فيما يحاول الجمهوريون التلميح إلى أن ما قاله ترامب لا يرقى إلى مستوى الضغط أو التدخل في مسار التحقيق. رئيس مجلس النواب، بول ريان، اختصر ما حصل بأن ترامب "جديد على هذه الأمور" ولا يعرف "بروتوكولات" التعامل مع مسؤولي فرض القانون. انتقاد الجمهوريين لكومي كان أنه بقي في الغرفة بعد طلب الرئيس، وأنه لم يخرج فوراً ليبلغ كل المعنيين، أي أنه كان مستعداً للأخذ والرد. تحدي البيت الأبيض أن ينقل التركيز من تهمة عرقلة التحقيق إلى أن كومي أقر بتسريب وثيقة سرية رداً على تهديدات ترامب بعد طرده من المنصب. ما حصل عليه البيت الأبيض، في المقابل، هو تأكيد كومي لمسألتين: لا شبهات في التحقيق على الرئيس نفسه، وأن التدخل الروسي لم يؤثر على صوت واحد في الانتخابات الأميركية. واتهم ترامب، في تغريدة، كومي بتسريب المعلومات. وكتب، في أول تعليقات بعد جلسة مجلس الشيوخ، "رغم البيانات الزائفة والأكاذيب الكثيرة والتبريرات الكاملة الشاملة... إنها براءة تامة ومكتملة ... وكومي مسرب" للمعلومات.


القطب المخفية الباقية بعد جلسة استماع كومي كثيرة. أولها ماذا لدى الـ"أف بي آي" على وزير العدل الحالي، جيف سيشنز، ما أدى إلى عزله عن ملف التحقيق بالتدخل الروسي في الانتخابات؟ هل مجرد الاجتماع مع السفير الروسي في واشنطن، سيرغي كيسلياك، أو هناك شبهات أكبر؟ جواب كومي أنه لم يبلغ وزير الوصاية عليه بمضمون لقائه مع ترامب، لأن هناك "وقائع" حول سيشنز ترتب عليه أخذ مسافة من التحقيق. كومي قال أيضاً إنه خلال عهد باراك أوباما، طلبت منه وزيرة العدل، لوريتا لينش، ألا يصف الاشتباه ببريد هيلاري كلينتون الإلكتروني بأنه "تحقيق" بل "مسألة". بعدها كان اجتماع لينش السري مع بيل كلينتون في مدرج مطار مدينة فينيكس في ولاية أريزونا الذي دفع كومي إلى إبعاد وزارة العدل عن كل ما يتعلق بالتحقيق حول هيلاري كلينتون خلال الحملة الرئاسية.

كومي ينتمي الى جيل ما بعد مؤسس الـ"أف بي آي"، جاي إدغار هوفر، الذي انتهك على مدى 37 عاماً الحقوق المدنية للأميركيين، إلى حد قال عنه الرئيس الأسبق، هاري ترومان، بأنه يدير شرطة سرية، وريتشارد نيكسون لم يفصله من المنصب خشية من الانتقام. جيل كومي تأثر بقيادة المدير الأسبق، روبرت مولر، الذي ظل في منصبه على مدى 12 عاماً، دافع خلالها بشراسة عن استقلالية مكتب التحقيقات الفيدرالي من دون توسيع صلاحياته. قبل أن يفعل ترامب ما فعله كان عليه ربما الاطلاع على تصرف كومي، في العام 2004، حين كان مساعداً لوزير العدل في إدارة جورج بوش الابن. أدرك حينها أن مساعدي بوش، أندرو كارد وألبرتو غونزاليس، على الطريق إلى مستشفى جورج واشنطن لزيارة وزير العدل الأسبق، جون أشكروفت، من أجل أخذ توقيعه على تمديد برنامج مراقبة الإرهاب، الذي تديره وكالة الأمن القومي. نائب الرئيس وقتها، ديك تشيني، كان ينوي تمديد هذا البرنامج، الذي تعتبره وزارة العدل غير قانوني. بحسب الرواية، كومي أبلغ مولر أن يلتقيه في المستشفى لمحاولة وقف أخذ توقيع أشكروفت، الذي كان تحت المخدر، كما اتصل مولر على الطريق بالحماية السرية لأشكروفت وطلب منهم عدم السماح لمساعدي بوش الاختلاء بوزير العدل. بعد إجهاض هذه المحاولة، اجتمع كومي ببوش الابن، وأبلغه رسالة من مولر بأنه سيستقيل في حال تم فرض تمديد البرنامج، ليتراجع بوش خشية من مواجهة كبيرة مع وزارة العدل.

في الواقع، كل رئيس أميركي خضع لتحقيق ما من الـ"أف بي آي"، وترامب لن يكون الرئيس الأخير. مكتب التحقيقات الفيدرالي كشف هوية المسؤول في مكتب تشيني (سكوتر ليبي) الذي سرّب هوية عميلة وكالة الاستخبارات المركزية (سي أي ايه)، ما أدى إلى إدانته وسجنه. مكتب التحقيقات الفيدرالي أصر، في العام 1998، رغم كل ضغوط البيت الأبيض، على أخذ الحمض النووي من فستان مونيكا لوينسكي ومقارنته مع بيل كلينتون، لإثبات أنه كان هناك علاقة جنسية بينهما تناقض مزاعم كلينتون العلنية. المكتب دقق أيضاً إذا ما حاول رئيس الاستخبارات الصينية التأثير على الانتخابات الرئاسية، عبر إيصال تبرعات إلى حملة بيل كلينتون. عام 1986، في عهد رونالد ريغان، تمسك الـ"أف بي آي" بالتحقيق في "إيران كونترا"، التي أدت إلى الادعاء على كبار المسؤولين في مجلس الأمن القومي. ما حصل قبلها في "ووترغيت" مع ريتشارد نيكسون ليس بحاجة إلى الشرح، ما دفع الكونغرس حينها إلى وضع سقف لخدمة مدير الـ"أف بي آي" وإخضاعه لرقابة مجلس الشيوخ. الفارق أن ترامب هو الرئيس الوحيد الذي تجرأ على فصل مدير الـ"أف بي آي" نتيجة تحقيق يتعلق برئاسته، ما سيستدعي ردود فعل مستمرة من وكالة تحقيقات تدافع بشراسة عن استقلاليتها عن السياسيين. فلول كومي في مكتب التحقيقات الفيدرالي لم تقل كلمتها بعد، ويبدو أن المعركة مستمرة.