تراجع أسعار النفط ليس كله شراً

22 يوليو 2020
+ الخط -

لم تبدأ أزمات الدول العربية الاقتصادية مع فيروس كورونا الذي ظهر فيها خلال الربع الأول من العام الحالي، حيث تسبب قبلها تحول اعتماد الاقتصادات الكبرى باتجاه مصادر الطاقة الصديقة للبيئة مع انخفاض الطلب مقارنة بالإنتاج المتزايد حول العالم وبصفة خاصة من النفط الصخري الأميركي، في حدوث تراجع ملحوظ في سعر الذهب الأسود، الذي يمثل عماد الثروة في وطننا العربي. 
وقبل حدوث الانخفاض القياسي في أسعار النفط، الذي واكب ظهور فيروس كورونا في الصين ثم أوروبا وأميركا، ونتج عن "الإغلاق الكبير" الذي فرضته الحكومات حول العالم، في محاولة للحد من انتشار الوباء، توقع صندوق النقد الدولي نفاد احتياطيات النقد الأجنبي لكبار مصدري النفط من دول الخليج العربي، والبالغة قيمتها 2 تريليون دولار، بحلول عام 2034. 
وأصدر صندوق النقد ذلك التوقع/ التحذير حين كان سعر البرميل المنتج في تلك الدول يتجاوز 60 دولاراً، ولم يعدل تاريخ نفاد الاحتياطيات حتى الآن، رغم فقدان البرميل لأكثر من ثلث ثمنه.
ومع استحواذه على نسبة كبيرة من إيرادات واقتصاد دول الخليج العربي، السعودية والإمارات وقطر والكويت والبحرين وعمان، لا يمكن إغفال الدور الذي يلعبه النفط في اقتصادات بعض الدول غير المنتجة له، حيث باتت تلك الدول معرضة للوقوع في مشكلة اتساع عجز الموازنة لديها، كما تزايد عجز ميزان المدفوعات فيها، مع استمرار انخفاض أسعار النفط على النحو الذي شهدناه خلال الشهور الماضية. 

وتسمح احتياطيات النقد الأجنبي لدول الخليج العربي، أو أغلبها، بالحياة عند مستويات أسعار النفط الحالية، وربما أقل منها، لشهور طويلة وربما أعوام، ومع ذلك فقد أقدمت تلك الدول على اتباع سياسات تقشفية للحد من عجز موازناتها. 
لكن الدول التي تعتمد على الخليج، مثل مصر ولبنان والأردن والمغرب، لا توجد لديها بدائل كثيرة، حيث تمثل تحويلات مواطنيها العاملين في الدول المنتجة للنفط ما يقرب من 10% من حجم الناتج المحلي الإجمالي في بعضها، بخلاف ما تساهم به من حل جزء هام من مشكلة البطالة في تلك البلدان.
ولا يقتصر اعتماد الدول العربية غير المصدرة للنفط على دول الخليج على جزئية العمالة، حيث يمثل سائحو الأخيرة المصدر الأول لدخل السياحة في هذه الدول، ويشتري مواطنوها أكبر نسبة من صادراتهم، ويلعبون الدور الأكبر، وربما الأوحد، للمستثمر الأجنبي فيها، كما أنها تكون دائماً المقرض الأول عند تأزم الأمور. وفي 2018، استأثرت دول الخليج الغنية بالنفط بما يقرب من 21% من صادرات مصر، و32% من صادرات الأردن، و38% من صادرات لبنان. 
وإذا كان الأمر كذلك، فربما يتسبب انخفاض أسعار النفط في كوارث للدول العربية غير المصدرة له، حيث سيؤدي إلى تهديد فرص بقاء أكثر من 3 ملايين مصري، يمثلون 3% من عدد سكان مصر، في وظائفهم في الدول الخليجية، وهو نفس التهديد الذي يتعرض له 5% من سكان كل من لبنان والأردن، و9% من سكان الأراضي الفلسطينية. 
وحتى مع افتراض احتفاظ نسبة كبيرة منهم بوظائفهم، فسوف تتأثر تحويلاتهم إلى أسرهم، لأن من يحتفظ بوظيفته سيُفرض عليه تخفيض أجره وتقليل الامتيازات التي يحصل عليها، وهو ما سيمثل ضربة قوية لموازين المدفوعات المختلة أصلاً في هذه البلدان. 
ومع خضوع حكومات دول الخليج لضغط المصروفات واتباع سياسات تقشفية، ستتأثر إيرادات السياحة في الدول العربية الأخرى، وتتراجع صادراتها، وتقل الاستثمارات الأجنبية الواردة إليها، وتزداد صعوبة حصولها على القروض. 

وفي عددها الأخير الصادر هذا الأسبوع، ناقشت مجلة "ذا إيكونوميست" البريطانية موضوع "غروب شمس الدول النفطية"، وتطرقت إلى تأثيره على الدول العربية الأخرى، حيث أشارت إلى ما سيسببه تراجع إيرادات النفط في الدول الخليجية من انخفاض عدد الوظائف المتاحة للمهاجرين من الدول الأفقر، وانخفاض رواتبها.

وأكدت المجلة أن الدول العربية غير النفطية لم تعد قادرة على خلق وظائف تكفي عدد من يتخرجون من الجامعة كل عام، وأن حكومات تلك الدول لا توفر حياة كريمة لمن يعيشون فيها، سواء من ناحية التعليم، أو الخدمات الصحية، أو حتى أبسط حقوق الإنسان التي اضطر الآلاف منهم للهجرة بحثاً عنها.
المجلة أكدت أن عدم تمكن خريجي الجامعات من الحصول على وظائف يعد وصفة مؤكدة لحدوث اضطرابات اجتماعية، تهدد من يمسكون بزمام الأمور في الدول غير النفطية، مشيرةً إلى أن عشرة آلاف مصري هاجروا من البلاد منذ عام 2016، وأن أغلبهم هاجر إلى دول الخليج بحثاً عن مستوى معيشة أفضل، مؤكدة أن الحالة الاقتصادية المتردية في لبنان، الذي يتخرج في جامعاته كل عام ما يقرب من 35 ألف شخص لا يجدون أكثر من خمسة آلاف وظيفة، ستدفع هؤلاء، وغيرهم من سكان البلد الصغير إلى الخروج منه بحثاً عن وظيفة، وخاصة في ظل الأوضاع الحالية غير المستقرة، التي شهدت انهيار العملة المحلية، وتراجع دخول العاملين، وتلاشي قيمة مدخراتهم. 
ومع تعدد مشكلات مصر الاقتصادية، واضطراب الأوضاع على حدودها الغربية، وتهديد فقدان جزء كبير من مواردها المائية بسبب تصميم إثيوبيا على بناء سد النهضة، وأزمات كل من لبنان والأردن والسودان ودول المغرب العربي، يبدو أن الأوضاع التي أدت إلى اندلاع شرارة الربيع العربي قبل أكثر من تسع سنوات ما زالت قائمة، وهو ما يعني تزايد احتمالات أن يؤدي انتهاء عصر النفط إلى حدوث تغيير، وإن سبق ذلك التغيير بعض الألم. 
التوقعات المتشائمة للاقتصادات العربية مع تراجع أسعار النفط، وربما انتهاء عصره، ليست بالضرورة كارثية على الشعوب، خاصةً إذا تم التعامل معها باعتبارها حافزاً على القيام بإصلاحات تساعد على تنويع الاقتصاد العربي، وتسمح بخلق حكومات تعبر عن المواطنين بصورة أكثر صدقاً، على النحو الذي حلمنا به كثيراً، قبل أن يتم اغتيال ذلك الحلم باستخدام الفوائض النفطية.

المساهمون