تراجعات إيرانية

28 اغسطس 2014

محمد جواد ظريف وجون كيري في مباحثات فيينا (13بوليو/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -


يتأكد، يوماً بعد يوم، تعاظم عجز إيران عن مواصلة معركة كسر العظم التي تخوضها على محور طهران/ بيروت ضد شعوب سورية والعراق ولبنان، وفي مواجهة ما يمارسه البيت الأبيض عليها من ضغوط، عبر الصراع الدائر على هذا المحور الذي كانت قد اندفعت بحماسة وتصميم إليه، اعتقاداً منها بأنها تستطيع حسمه لصالحها، مع ما سيعنيه ذلك من استمرار النظام الأسدي، وتوطيد وجودها ودورها في المنطقة الواقعة بين المتوسط وجبال هندكوش. 

وقع التراجع الإيراني الأول أمام واشنطن، بعد قصف الغوطتين الشرقية والغربية ليلة 21 أغسطس/ آب 2013 بسلاح الأسد الكيميائي، وعقد صفقة أميركية/ روسية، ألزمت النظام السوري بتسليم مخزوناته منه إلى أميركا وإسرائيل، بينما قبلت إيران صفقة تسلّم بحق وكالة الطاقة الذرية في تفتيش منشآتها النووية دون إعلام مسبق، وتخلّت عن تخصيب اليورانيوم بنسبة 20%، وخفضت كمياته المطلوبة لصناعتها النووية، وارتضت بشرائه من الأرجنتين.

ووقع تراجع إيران الثاني، عقب انهيار جيش نوري المالكي أمام هجومٍ، يكاد يكون افتراضياً، شنته تنظيمات لديها آلاف قليلة من المقاتلين. آنذاك، أي قبل نيّفٍ وشهرين، دخلت أميركا، التي كان يقال إنها أُخرجت من العراق الذي صار فارسياً، بقوة على خط الأزمة، وفرضت خياراتها هناك، ومنها تخلي المالكي، رجل إيران "القوي"، عن السلطة، وتشكيل حكومة وحدة وطنية تمثّل جميع العراقيين، وإقامة تعاون متبادل بين بغداد وأربيل، وشن ضربات جوية ضد "داعش" تغطي شمال العراق وغربه. في المقابل، عجزت إيران عن التمسك بالمالكي، وعن إبقاء الأميركيين خارج اللعبة، أو عن إضعاف دورهم في بلد قيل كثيراً إنهم فقدوه لصالح إيران: صاحبة القول الفصل في بغداد. بذلك، بدا دور طهران باهتاً منذ أيام الأزمة الأولى، قبل أن يستسلم لفشله بعد حين، ويتخلى عن الجنرال قاسم سليماني، جنرال الحرس الثوري الذي سيّر العراق طوال العقد الماضي، وها هي إيران ترسل، اليوم، وزراءها لعقد صفقات إنقاذية مع مسؤولي بغداد الجدد، بعدما وجدت نفسها معزولة عن القوى المقررة هناك: بما في ذلك الشيعية منها.

والآن: ماذا يمكن أن يكون تراجع طهران القادم؟ هل ستقبل دوراً إقليمياً تربط أميركا به إنهاء تصفية حساباتها معها في سورية والعراق، يخرجها من ورطتها فيهما، ويطبّع علاقاتها وعلاقات إسرائيل معها؟ يبدو، اليوم، جليّاً أن الصراع سيستمر في سورية، إلى أن توافق إيران على تراجعٍ كهذا، وأن سلوكها في المسألتين، النووية والعراقية، يؤكد أنها ستقبله خلال زمن قد لا يكون طويلاً، ليس فقط بسبب وطأة الحرب السورية عليها، بل كذلك بسبب ضعف نظامها المتزايد، وحاجته إلى تحصين نفسه ضد مخاطر تهدده، بينها اليوم مخاطر الإرهاب والأصولية التي أسهمت في إطلاقها من قمقمها، وتهدّدها، الآن، في عقر دارها.

لم يعد تراجع طهران الثالث مستبعداً. أعتقد أنها مسألة وقت، بعدما أدارت أميركا بنجاح أزمة سورية، وعادت بقوة إلى العراق. إنها مسألة وقت، يُقاس بالأشهر، وليس بالسنوات!

E4AA2ECF-ADA6-4461-AF81-5FD68ED274E9
ميشيل كيلو

كاتب سوري، مواليد 1940، ترأس مركز حريات للدفاع عن حرية الرأي والتعبير في سورية، تعرض للاعتقال مرات، ترجم كتباً في الفكر السياسي، عضو بارز في الائتلاف الوطني السوري المعارض.