هرب من ثمن تذكرة القطار إلى الموت دهسا تحت عجلاته وفصل رأسه عن جسده. لم يمنحه محصّل التذاكر فرصة للتفكير "فإما أن تدفع ثمن التذكرة وإما أن تعاقب عبر الشرطة أو تقفز من باب القطار"، فاختار محمد عيد البائع المصري المتجول القفز خارج الدنيا هربا من الفقر الذي حاصره طوال حياته.
هذه الحادثة التي وقعت أمام أعين ركاب القطار، أول من أمس، شغلت الرأي العام المصري ودفعت الجميع إلى فتح ملفات تفاقم الفقر المدقع، والبطالة والفساد، ولا سيما أنها تزامنت مع ضحايا الأمطار وتدهور البنية التحتية والبالغ عددهم نحو 25 قتيلا.
وكان الضحية محمد عيد يعمل في مجال بيع الميداليات مع صديقه أحمد سمير الذي قفز معه من القطار الفاخر vip رقم 934 المتجه من الإسكندرية (شمال) إلى الأقصر (جنوب). وأوضح سمير عقب إخلاء النيابة سبيله أن السعي للحصول على لقمة العيش التي دفعتهم إلى العمل باعةً جائلين في ظل عدم وجود فرص في مجالات أخرى، وأنهما اضطرا إلى القفز من القطار بعد تهديد المحصل لهما بتسليمهما للشرطة لعدم سداد ثمن التذاكر التي لا يمتلكان قيمتها.
قصة الباعة الجائلين في مصر تمثل أزمة مجتمعية واقتصادية مزمنة، ففي ظل تراجع فرص العمل وانتشار البطالة خاصة بين الشباب وخريجي الجامعات يزداد عدد هؤلاء يوما بعد يوم، وبدلا من أن تبحث السلطات المسؤولة كيفية توفير فرص عمل لهؤلاء وتسهيل حصولهم على قروض ميسرة لتأسيس مشروعات صغيرة، تشن هذه السلطات من آن لأخر العديد من الحملات على الباعة الجائلين غير المرخص لهم بحجة تنظيم الأسواق وحركة المرور وتفادي الزحام.
وتعج الشوارع والميادين والمواصلات العامة بأعداد ضخمة من الباعة الجائلين الذين لا توجد إحصائيات رسمية حول أعدادهم والمناطق التي يتركزون فيها، إلا أنه حسب إحصائيات سابقة لنقابة الباعة الجائلين (مستقلة) يتراوح أعداد هؤلاء بين 4.5 ملايين و5 ملايين بائع، يتاجرون في كل أنواع السلع، سواء مواد غذائية أو ملابس أو أدوات منزلية وغيرها من السلع، كما يتاجرون بأجهزة الموبايل والأجهزة الإلكترونية. في حين قدرت منى جاب الله عضو لجنة الإدارة المحلية في البرلمان المصري عدد الباعة الجائلين بنحو 6 ملايين شخص، موضحة في تصريحات، مؤخراً، أن مشروع قانون الباعة الجائلين يهدف إلى تنظيم عملهم وإدماجهم في الاقتصاد الرسمي.
كارثة مجتمعية
وحسب مراقبين لـ"العربي الجديد"، فإن المجتمع كله، وطبقة الباعة الجائلين على وجه الخصوص، بدأ يدفع ثمن السياسات الاقتصادية لحكومة عبد الفتاح السيسي والتي زادت من الضغوط المعيشية على المواطنين وفاقمت أزماتهم الاجتماعية ودفعت عشرات الملايين منهم إلى دائرة الفقر، وذلك عبر تطبيق سياسات تقشفية أدت إلى حدوث قفزات في الأسعار وزيادة معدلات الفقر.
وكشفت إحصائيات رسمية حديثة، عن وقوع ثلث المصريين تحت خط الفقر، إذ أعلن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (حكومي)، ارتفاع معدل الفقر في البلاد خلال العام المالي 2017/ 2018 إلى 32.5 في المائة، مقابل 27.8 في المائة خلال العام المالي 2015-2016. أي زاد عدد الفقراء بنسبة 4.7 في المائة خلال عام واحد، وهي أعلى نسبة للفقر في مصر منذ عام 2000، وفقا للبيانات الرسمية.
وقدّر البنك الدولي في تقرير سابق ارتفاع نسبة الفقر والفئات القابلة للدخول في دائرته إلى نحو 60 في المائة، أي أن عدد الفقراء بلغ إلى نحو 60 مليون مواطن، وفق هذا التقرير.
وتعليقا على حادث تذكرة الموت التي تحولت إلى قضية رأي عام في مصر، قال الخبير الاقتصادي، عبد النبي عبد المطلب، لـ"العربي الجديد": إن موت بائع متجول تحت عجلات القطار هي كارثة بكل المقاييس نتجت عن ارتفاع نسبة الفقر، بالإضافة إلى عدم وضوح اللوائح وتنفيذ القانون على بعضهم دون آخرين.
وأشار عبد المطلب، إلى أن القانون يجرّم عمل الباعة الجائلين، ويفرض حصولهم على رخصة ضمن اشتراطات قد يكون من الصعب توافرها، ومع ذلك فإن القائمين على تنفيذ التشريعات غالبا يغضون الطرف عن هؤلاء في كثير من الأحيان، إما من باب الشفقة، أو مقابل فرض إتاوات محدّدة.
وقال: "كثير ما تحدث مناوشات بين الباعة الجائلين وسلطات تنفيذ القانون، وغالبا ما تنتهي إلى لا شيء، ويعود هؤلاء لممارسة أعمالهم كلما هدأت الأمور، إلا أن جريمة القطار جاءت لتفضح كل السلبيات الحكومية".
وفي رد فعل حكومي سريع على حادث مصرع شاب تذكرة القطار، قال وزير النقل المصري، الفريق كامل الوزير، مساء أول من أمس، إن "الشابين كانا على علم بدرجة القطار قبل الصعود إليه، ولكن هذا لا يبرر الواقعة". وأثارت هذه التصريحات غضب المصريين على مواقع التواصل الاجتماعي، إذ أكدوا أن التصريحات تمهد للتهرب من المسؤولية وعدم محاسبة المتورطين.
ومن جانبه قال عبد المطلب: ما حدث في القطار لن يكون الأخير، ولا يمكن تجنب حدوثه مستقبلا إلا بالقضاء على السلبيات التي يعاني منها المجتمع ككل، وفي هذه الحالة لا بد من تنظيم عمل الباعة الجائلين ومن في حكمهم بالطريقة التي تمكنهم من كسب عيشهم بكرامة.
وأكد الخبير الاقتصادي أن كارثة القطار هذه المرة ربما أسوأ من كل حوادث القطارات التي سبقتها، فهي توضح بجلاء الحالة الصعبة التي وصل إليها المصريون، إذ وصل الأمر إلى اعتبار القفز من القطار أقل وطأة من دفع مبلغ أقل من مائة جنيه، أو الوقوع في يد الشرطة.
وقالت تقارير رسمية، إن التضخم السنوي لأسعار المستهلكين في المدن المصرية سجل أقل مستوياته في أربع سنوات عندما هبط إلى 8.7 في المئة في يوليو/ تموز الماضي من 9.4 بالمئة في يونيو/ حزيران، وهو ما شكك فيه خبراء اقتصاد.
وحسب هؤلاء فقد أدت السياسات الاقتصادية الحكومية إلى أعباء معيشية متفاقمة على المصريين خلال السنوات الأخيرة، ولا سيما عقب توقيع اتفاق قرض بـ12 مليار دولار مع صندوق النقد، ترتب عليه تعويم العملة المصرية في 3 نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، ما أدى إلى تهاويها من 8.88 جنيهات إلى الدولار إلى نحو 16 جنيها حاليا. كما استجابت الحكومة لشروط الصندوق وقامت بتقليص الدعم ورفع أسعار الوقود خمس مرات، بالإضافة إلى رفع فاتورة الكهرباء والمياه. ولم تكتف الحكومة بهذا القرض بكل كشفت وزارة المالية، مؤخراً، عن مفاوضات مع صندوق النقد للحصول على قروض جديدة.
صراع الفقراء
قال الخبير الاقتصادي، علاء عبد الحليم، في اتصال هاتفي من القاهرة، لـ"العربي الجديد" إن الإجراءات الاقتصادية التي تضمنت إصلاحات تقشفية أثرت سلبا على المواطنين، موضحا أن هناك مؤشرات إيجابية منها توفير فرص عمل في العديد من المناطق.
وأضاف عبد الحليم: لا يمكن فصل موضوع ضحية تذكرة القطار عن المشاكل المجتمعية التي ظهرت خلال الفترة الأخيرة، إذ إن المحصل الغلبان محدود الدخل استقوى على بائع متجول فقير، وهو ما يتطلب النظر إليها ليس فقط من الجوانب الاقتصادية، ولكن إجراء دراسات اجتماعية ونفسية أيضا.
وأشار إلى أن جانبا من المأساة تتحملها الحكومة وجانب آخر يتحمله المواطنون، إذ إن العاطلين عن العمل تعرض عليهم فرص تشغيل في مدينة برج العرب بآلاف الجنيهات شهرياً ويرفضونها لأنها بعيدة عن منازلهم ويفضلون العمل باعةً جائلين.
وأوضح الخبير الاقتصادي، أن سبب وقوع ضحايا بسبب الأمطار والبنية التحتية المتدهورة تتحمله الحكومة والمواطنون أيضاً، إذ إن الطرف الأول مسؤول عن الإهمال، والثاني لجأ إلى العشوائيات من أجل حل مشكلة الإسكان وارتكب مخالفات في البناء وتوصيل الخدمات الأساسية.
وتقدم عضو مجلس النواب المصري مصطفى كمال الدين حسين، أول من أمس، بطلب إحاطة عاجل إلى وزيري النقل كامل الوزير، والإسكان عاصم الجزار، بشأن الإجراءات التي اتخذتها الوزارتان حيال انهيار بعض الطرق الرئيسية من جراء موجة الأمطار الأخيرة، لا سيما الطريق الدائري الإقليمي.
وقال حسين في طلب الإحاطة، إن الدولة المصرية أنفقت المليارات من الجنيهات على إنشاء هذه الطرق، ولم يمر على تنفيذ بعضها سوى عامين، متسائلاً: "من المسؤول عن صرف المليارات من أموال المصريين على إنشاء هذه الطرق؟ وما هي أسباب عدم إجراء دراسات جدوى حولها، ومن ضمنها أثر السيول والأمطار عليها في حالة سقوطها؟!".
واستشهد حسين بالهبوط الأرضي الذي وقع عند الكيلو 25 في الطريق الدائري الإقليمي بطول 135 متراً، وعرض 30 متراً، وعمق حوالي 30 متراً.
تجدر الإشارة إلى افتتاح الرئيس عبد الفتاح السيسي، الطريق الدائري الإقليمي في 9 سبتمبر/أيلول 2018، بتكلفة تصل إلى 7.9 مليارات جنيه.