تدمير اليرموك... فصل من مخطط إنهاء اللجوء الفلسطيني بسورية

30 ابريل 2019
معظم مباني المخيم باتت مدمرة (لؤي بشارة/فرانس برس)
+ الخط -
تتكشف تباعاً خطط النظام السوري لإنهاء أو في الحد الأدنى تقليص وبعثرة الوجود الفلسطيني في سورية إلى أبعد حد، عبر سلسلة من الإجراءات والخطوات التي تتخذ أشكالاً عدة، لكن يتيح ربطها ببعضها تقديم تصور واضح عن السلوك الممنهج الذي يتّبعه النظام لتحقيق هذا الهدف. ويروي مصدر وثيق الصلة بأحد التنظيمات الفلسطينية التي قاتلت إلى جانب النظام طوال السنوات الماضية، في حديث مع "العربي الجديد"، كيف دمّر النظام عن عمد مخيم اليرموك جنوبي دمشق خلال الاشتباكات مع تنظيم "داعش" في مايو/أيار من العام الماضي، وهو يمنع اليوم إعادة إعمار المخيم عن وعي وتصميم أيضاً، معتبراً أن الهدف هو إنهاء الوجود الفلسطيني في المخيم بوصفه أكبر تجمّع للفلسطينيين في سورية، بل وفي العالم كله، خارج الأراضي الفلسطينية المحتلة. حتى أن عمليات نهب المخيم لا تتوقف، إذ قالت مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سورية، قبل أيام، إن قوات النظام ومليشيات تابعة لها تعمل على سرقة مواد الحديد من المباني المدمرة والنحاس من المنازل في المخيم. وأوضحت المجموعة نقلاً عن شهود عيان، أن مجموعات موالية للنظام تعمل على رفع الأنقاض وأسقف المنازل في منطقة شارع الـ30 في المخيم وتسرق محتوياتها.

ويشرح المنسق العام لتجمّع "مصير"، الباحث الفلسطيني السوري، أيمن أبو هاشم في حديث مع "العربي الجديد"، أن النظام عمل خلال الثورة السورية على تفكيك الوجود الفلسطيني في سورية عبر تدمير ممنهج لمجمل المخيمات والتجمّعات الفلسطينية في سورية وتهجير أهلها، فضلاً عن ممارسته حرب ترهيب وقمع وتضييق على الفلسطينيين في سورية، الأمر الذي كان من نتائجه تراجع كبير في أعداد الفلسطينيين المتواجدين في سورية.

تدمير ممنهج
يُعدّ مخيم اليرموك، الذي يقع على بُعد ثمانية كيلومترات جنوب مركز العاصمة دمشق، من أكبر المخيمات الفلسطينية خارج فلسطين، وسُمي عاصمة الشتات الفلسطيني، وكان يقطنه (أي مخيمي اليرموك وفلسطين المتداخلين) مليون شخص، منهم نحو 160 ألف فلسطيني، وتُقدر مساحته بنحو كيلومترين مربعين.
ويتحدث المصدر الفلسطيني، لـ"العربي الجديد"، عن خطط النظام لتدمير اليرموك وكيف كان يسمح للعناصر التابعين لتنظيم "داعش" بالخروج من منطقة جنوب دمشق في مايو الماضي عبر صفقة غير معلنة باتجاه ريف السويداء، حيث كان لهم هناك استخدام آخر كما اتضح لاحقاً. والمعروف أن الثقل الأساسي للتنظيم كان في مدينة الحجر الأسود المجاورة لمخيم اليرموك، بينما كان وجوده في المخيم ضمن مربعات محددة للانتشار العسكري ضمن تشكيلات تضم سوريين من أبناء الجولان المحتل ومن قرى الغوطة الشرقية ومن حي الميدان الدمشقي، والقليل منهم من أهالي حوران المقيمين في حيي القدم والعسالي، بينما لم تتجاوز أعداد الفلسطينيين العشرين فرداً من أصل 850، بحسب المصدر.

ويوضح المصدر أن هذا التدمير الممنهج لم يقتصر على مخيم اليرموك، بل شمل كل التجمّعات الفلسطينية الرئيسية في سورية، مثل مخيم خان الشيح قرب دمشق، ومخيم درعا جنوبي سورية، شارحاً أن "التدمير كان يتم بالطيران والمدفعية والصواريخ وليس عبر القصف العشوائي، بل عبر قصف مبرمج من خلال تقسيم المنطقة الجغرافية المحددة إلى مربّعات، وتركيز القصف على مربّع معين حتى تدمير كل منزل ومنشأة فيه، خصوصاً ما يتصل بالمؤسسات التي تخدم الفلسطينيين بشكل أساسي مثل تلك التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) التي جرى تدمير كل مدارسها ومراكزها الطبية والاجتماعية". ويضيف المصدر أن القصف لم يوجّه إلى المدارس الحكومية التابعة للنظام الموجودة في المنطقة إلى جوار المدارس التي دُمرت، مشيراً إلى أن 80 في المائة من أبنية المخيم كانت سليمة قبل مايو الماضي، وهو ما أثار في ذلك الوقت أسئلة محيرة عند حلفاء النظام من "الجبهة الشعبية-القيادة العامة" وغيرها من الفصائل الفلسطينية، التي كانت تشاهد عملية التدمير الممنهج لليرموك بالقصف الجوي الذي طاول كل مربعات اليرموك، وحتى المقابر.
وكان مخيم اليرموك يضم قبل اندلاع الثورة في سورية عدة مراكز لوكالة "أونروا"، منها مستوصفان باتا مدمرين بالكامل، ومركز تأهيل مهني، ومركز دعم الشباب، فضلاً عن 28 مدرسة تعمل بنظام الفترتين، إضافة إلى ثماني مدارس حكومية.

نهب متواصل
لم يتوقف الأمر عند تدمير المخيم، "فما جرى بعد خروج داعش من المخيم أشد فتكاً على النفس من التدمير بحد ذاته"، وفق المصدر الذي يتابع عن كثب الاتصالات والتحركات الخاصة بإعادة الحياة لمخيم اليرموك، موضحاً أن "المجموعات العسكرية التابعة للنظام، سواء القوات النظامية أو مليشيات الدفاع الوطني، شرعت بعد خروج داعش في نهب اليرموك عن بكرة أبيه، في صورة تعيد للأذهان ما فعله هولاكو في بغداد، فكان الانتقام من اليرموك، والتنكيل بأهله بأبشع صوره".

ويشير إلى أن عمليات السرقة والنهب (التعفيش) مستمرة حتى الآن، لكنها "انتقلت لتعفيش الحديد الذي كان في المباني، وتكسير البلاط والرخام والأدوات الصحية غالية الثمن لإلحاق المزيد من الضرر والتدمير بأهل اليرموك"، مضيفاً "يمكن للمشاهد أن يرى قوافل الشاحنات وهي تخرج يومياً باتجاه المتحلق الجنوبي محملة بأكوام الحديد وما بقي من اليرموك، وعلى عينك يا تاجر". ويلفت إلى أن "التجار المتعاقدين مع المجموعات النظامية والمليشيات اتفقوا على تفريغ المخيم من كل شيء، وبيع كل الموجودات لإعادة تدويرها، كالحديد والألمنيوم والأخشاب والنحاس..."، متوقعاً أن يتم في مرحلة لاحقة بيع التراب والرمل في المخيم "لكي يعود أرضاً جرداء تصلح لإقامة أبنية حديثة يقيمها أصحاب الملايين، من الفاسدين في النظام وتجار الحرب، ولا يجرؤ أهالي المخيم السابقون على الاقتراب منها لارتفاع أسعارها الجنوني".

وبحسب المصدر، فإن من يقوم بعمليات التعفيش "مجموعات معروفة وبعضها رسمي يتبع للنظام، مثل الفرقة الرابعة، أو غير رسمي مثل مليشيا أبو منتجب الذي اشتهر بعمليات القتل التي قام بها وأفراد مجموعته للعائلات الفلسطينية وإلقاء جثثها في حفر بمنطقة التضامن، وكان من أبرز المشاركين في مجزرة شارع علي الوحش، إضافة إلى مجموعة ياسر سليمان وفادي صقر التابعة للدفاع الوطني في منطقة التضامن، وغيرها".

مماطلة لمنع العودة
ويكشف المصدر أنه بعد تدمير المخيم وتهجير بقية سكانه، وبعد نحو عشرة أشهر من سيطرة سلطات النظام على المخيم، فإنها لا تزال تماطل في مسألة رفع الأنقاض، وفتح المجال لمن تبقّى من سكان المخيم داخل سورية للعودة إلى منازلهم من أجل ترميمها، مشيراً إلى أن وكالة "أونروا" تلقّت مبلغاً بقيمة مليوني دولار من السلطة الفلسطينية كان مخصصاً لرفع الأنقاض من شوارع المخيم وأزقته، لكن السلطات سمحت فقط برفع الأنقاض من الشارع الرئيسي وبعض الشوارع القليلة الأخرى، بينما بقي الركام والأنقاض في الشوارع الفرعية وداخل البيوت المهدمة، لافتاً إلى أن أكثر من نصف منازل المخيم الذي كان يقطنه قبل الثورة نحو مليون شخص، مدمرة كلياً أو جزئياً.


ويؤكد المصدر أن "كل الوعود التي تقطعها السلطات للناس وللوفود الآتية من رام الله بشأن إعادة إعمار المخيم وعودة سكانه، مجرد أكاذيب، بينما في الحقيقة هناك تآمر على اليرموك ولن يكون هناك عودة لأحد، والأفضل من وجهة نظر الحاقدين في النظام أن يهاجر الفلسطينيون من سورية إلى غير رجعة، عبر مواصلة التضييق عليهم، والتنكيل بهم وإهانتهم بتعفيش بيوتهم أمام أعينهم، في دعوة واضحة لهم للخروج من البلد".
ويوضح أن الوفود الفلسطينية التي تأتي من رام الله، "ليس عندها شيء تقدّمه لأهالي اليرموك سوى بعض المال الذي دفعته مقابل رفع الأنقاض من المخيم، لكن لم يتم رفعها إلا من بعض الشوارع الرئيسية كمرحلة أولى كما قيل، ويبدو أنها مرحلة أخيرة أيضاً". ويشير إلى أن محافظ دمشق عادل العلبي، و"هو شخص صغير السن، وقليل الخبرة، ليس له حول أو قوة بعدما تم حل اللجنة المحلية في المخيم وإتباعه مباشرة للمحافظة، وليس عنده هو ومجموعته شيء سوى القول للفصائل وقياداتها التي استقبلها غير مرة: ننتظر التعليمات"، مؤكداً أن "كل ما يجري تشكيله من لجان ليس سوى إضاعة وقت وضحك على الذقون".

وكانت حكومة النظام أصدرت قراراً في 12 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي يقضي بأن تحل محافظة دمشق محل "اللجنة المحلية" في مخيم اليرموك، والتي هي كناية عن بلدية اليرموك، بما لها من حقوق وما عليها من التزامات، وأن يوضع العاملون في اللجنة المحلية للمخيم، القائمون على رأس عملهم، تحت تصرف محافظة دمشق.
وقبل هذا القرار، كان المخيم يُدار ومنذ عام 1964، بطريقة مستقلة إلى حد ما، وتتبع اللجنة المحلية التي تديره لوزارة الإدارة المحلية، وليس لمحافظة دمشق، ويكون على رأسها عادة مواطن فلسطيني من أبناء المخيم، وتدير شؤونه بالتعاون مع الإدارة المحلية ومع منظمة "أونروا"، والتي كان لديها الكثير من المشاريع والخدمات في المخيم. لكن هذا القرار هو في سياق سياسة النظام من أجل إلغاء ما كان يتمتع به المخيم من خصوصية كمنطقة جغرافية، إذ سيصبح اليرموك مثل أي حي من أحياء دمشق يتبع للمحافظة وتلغى عنه صفة المخيم ويستعاض عنها باسم منطقة اليرموك.
ومنذ صدور هذا القرار، بشأن تبعية المخيم لمحافظة دمشق، توقفت أعمال رفع الأنقاض التي كانت تشرف عليها اللجنة المحلية في المخيم كلياً، ولا يُعرف حتى الآن ما هي خطط المحافظة بشأن المخيم.

ويقول المصدر الفلسطيني في حديثه لـ"العربي الجديد"، إن "أصحاب النوايا الطيبة من الفلسطينيين، يقولون إن النظام ضاق ذرعاً من اليرموك قبل الأزمة أصلاً، لذلك يريد تفكيك هذا التجمع وتوزيع الفلسطينيين بين الأحياء السورية"، خاتماً بالقول إن على الجميع مواجهة الحقيقة، بما في ذلك توقف وفود رام الله عن لعب دور "الأطرش بالزفة"، وهي تعي حقيقة ما يجري على الغالب، وتعي بأن اليرموك تم تدميره بقرار مسبق وحاقد، لكنها تعمل وفق قول: "الحق الكذاب لوراء الباب"، والسؤال متى تعلن حقيقة ما تعرفه عن نيات النظام الحقيقية تجاه المخيم، وهل ستبقى شاهد زور على هذه الجريمة التاريخية؟

تفكيك الوجود الفلسطيني
من جهته، يقول المنسق العام لتجمّع "مصير"، الباحث الفلسطيني السوري أيمن أبو هاشم، إن النظام السوري عمل خلال الثورة السورية على تفكيك الوجود الفلسطيني في سورية. ويضيف أبو هاشم، في حديث مع "العربي الجديد"، أنه "اعتباراً من نهاية 2012 قصف النظام المخيم بالطيران بهدف دفع أهله للمغادرة، وأتبع ذلك بفرض حصار محكم على المخيم، فغادر خلال هذه الفترة نحو 90 في المائة من سكان المخيم، وصولاً إلى الحرب الأخيرة بحجة القضاء على "داعش"، والتي كان الهدف الحقيقي لها استكمال تدمير ما تبقى من المخيم، فوصلت نسبة التدمير إلى 80 في المائة".
ويوضح أبو هاشم أن التدمير لم يقتصر على مخيم اليرموك، بل شمل مجمل المخيمات والتجمّعات الفلسطينية في سورية، مثل مخيم درعا في الجنوب، والذي عمل النظام على تدميره بنسبة 90 في المائة، إضافة إلى مخيمي السبينة وخان الشيح في ريف دمشق، وحندرات في ريف حلب والرمل في اللاذقية، مضيفاً "تعرّضت كل هذه المخيمات إلى تدمير ممنهج وتهجير أهلها خدمة لإسرائيل من أجل أن يحافظ النظام على سلطته، لأنه حين يقوم بتفكيك الوجود الفلسطيني في سورية ويطمس الهوية الوطنية الفلسطينية، يقدّم خدمة كبيرة لإسرائيل".

ويلفت الباحث إلى أنه "حتى على الصعيد الإنساني، يمارس النظام حرب ترهيب وقمع، فهناك أكثر من 11 ألف معتقل فلسطيني في سجون النظام، فيما قُتل نحو ألف تحت التعذيب، فضلاً عن التضييق على الفلسطينيين في سورية، بالتزامن مع تقليص خدمات منظمة أونروا للاجئين الفلسطينيين، وخذلان منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية لفلسطينيي سورية الذين كانوا تاريخياً هم الرافد الأساسي للثورة الفلسطينية". ويضيف: "بسبب هذه السياسات، بات اليوم نحو 200 ألف فلسطيني خارج سورية من أصل 550 ألفا، فيما يعيش نحو 80 في المائة ممن بقوا داخل سورية نزوحاً داخلياً، في مؤشر على بؤس الوجود الفلسطيني اليوم في سورية بسبب السياسات التي اتّبعها النظام بحقهم".

ويعيش اليوم في المخيم بضع عشرات من العائلات فقط التي لم تغادره خلال الحرب، بينما نزح معظم سكانه إلى مناطق في ريف دمشق أو غادروا إلى خارج سورية باتجاه الدول المجاورة أو أوروبا، وتُقدر مصادر وصول نحو مائة ألف فلسطيني من سورية إلى الدول الأوروبية.
ومنذ ما قبل الثورة، كانت هذه المنطقة، محل اهتمام الدوائر الاقتصادية النافذة في النظام، لأسباب اقتصادية بالدرجة الأولى في ذلك الحين، لأنها مناطق حيوية وقريبة جداً من العاصمة، وهي في معظمها مناطق فيها مخالفات سكنية. وجاءت ذريعة محاربة "داعش" والفصائل المسلحة بمثابة "هدية" للنظام من أجل إزالة هذه المناطق عن الوجود، فأخرج مخططاته "التطويرية" من الأدراج، وعلى رأسها المخطط التنظيمي المسمى "باسيليا ستي"، والذي يشمل بساتين-داريا القدم وعسالي ومنطقة شارع الثلاثين في مخيم اليرموك، بما يصل إلى تسعة ملايين متر مربع.

المساهمون