تدمر... لؤلؤة الصحراء

02 يونيو 2015
لؤلؤة البادية مدرجة على لائحة التراث العالمي للإنسانية (Getty)
+ الخط -
الحديث عن تدمر لا يعد آنياً، ولا ينتظر لحظة مفصلية، فحضارتها عمرها آلاف السنين، تكيفت مع كل عصر مر عليها، نهلت من ثقافته وأثرت فيه وتأثرت به، فلؤلؤة البادية السورية مدرجة على لائحة التراث العالمي للإنسانية، بحسب يونيسكو، لكن هذا التراث الإنساني بات اليوم معرضاً إلى الاندثار على يد داعش.
نبع أفقا، ربما اسم يجهله الكثيرون، لكن هذا النبع كان الشريان الرئيسي في نشوء حضارة خالدة منذ غابر الأزمان حتى الآن، وصاحب الفضل الكبير في نهوض مملكة تدمر، مياهه معدنية كبريتية ذات فوائد جمة، يتدفق من جبل المنطار بمسافة تزيد على 350 متراً.
تقع مدينة تدمر الأثرية في قلب البادية السورية على بعد 240 كيلومتراً من دمشق، و150 كيلومتراً شرقي حمص؛ هذا الموقع المتوسط أكسبها أهمية تاريخية واستراتيجية في العصور السابقة، إذ كانت موقعاً تجارياً هاماً بين أعظم دولتين في تلك الفترة؛ الفارسية والرومانية، فأصبحت ملتقى الحضارات التي تمر عبرها، ومحطة قوافل تجارية من الهند والصين إلى أوروبا؛ لذلك تأثرت بالتيارات الفكرية والثقافية التي كانت تمتزج فيها نتيجة هذا التواصل، بالإضافة إلى شتى أنواع البضائع التي كانت تُحمل إليها.
المدينة مفروشة بأحجار كلسية، جلبت إليها من مقالع قريبة منها، فيها واحة مساحتها تقارب ثلاثة آلاف كيلومتر مربع، غنية بأشجار النخيل، آثارها تمتد على مساحة أكثر من عشرة كيلومترات، تخطيطها روماني – يوناني وتأثر في مراحل لاحقة بالنمط الفارسي، وعلى مقربة من المدينة كهوف تاريخية تدل رسومها على أنها كانت مسكونة منذ الألف السابع قبل الميلاد، وأول ذكر ورد عنها كان في وثائق ماري في الألف الثاني قبل الميلاد، وأول شعب سكنها الكنعانيون الذين عبدوا الإله بعل، وأقاموا له معبداً باسمه في بدايات القرن الأول على أنقاض معبد هلنستي (الهلنستية هي الفترة الممتدة بعد وفاة الإسكندر المقدوني 323 ق.م وحتى قيام الإمبراطورية الرومانية 30 ق.م)، وبنيت معابد أخرى هي معبد نبو، معبد اللات ومعبد بعل حامون.
ثم استوطن فيها الآراميون وسموها تدمرتو؛ أي الأعجوبة أو المعجزة، وأطلق الإغريق عليها اسم بالميرا؛ نسبة إلى أشجار النخيل المتوفرة فيها بكثرة، ومن المعتقد أيضاً أن اسمها مشتق من "دمر" التي تعنى حمى في اللهجات العربية من لغات الجزيرة العربية القديمة، وسكنها أيضاً العموريون، ثم خضعت في القرن الخامس قبل الميلاد للفرس، في أواسط القرن الأول الميلادي ألحقت بالإمبراطورية الرومانية، وفي نهايات القرن الخامس وبدايات القرن السادس الميلاديين خضعت للغساسنة حلفاء الروم.
تضم المدينة الشارع المستقيم ذا الأعمدة الشهيرة، وبعض هذه الأعمدة مكتوب عليها اسم أصحابها، والساحة العامة والمسرح والحمام وقوس النصر، وعدداً من الكنائس التي تعود إلى القرن الخامس الميلادي، ومن معالمها الشهيرة قصر الحير الغربي الذي نقلت واجهته إلى متحف دمشق الوطني، وقصر الحير الشرقي، والفوروم (مكان لعقد الاجتماعات العامة والمبادلات التجارية) وقد عثر فيه على ألواح قانون التجارة التدمري التي تعود إلى عام 137 ميلادي؛ وهي محفوظة في متحف الإرميتاج في سان بطرسبرغ الروسية منذ عام 1881؛ إذ غدت تدمر بعد عصر النهضة الأوروبية قبلة للعديد من المستشرقين الفرنسيين والإنجليز والألمان.
عندما تذكر تدمر، يجول في الخاطر مباشرة ملكتها الأسطورية زنوبيا التي حاربت الرومان، ووقفت سداً منيعاً في وقف توسعاتهم، وكانت ذات ثقافة واسعة، فقد قربت الحكماء والعلماء والفلاسفة، لكن سرعان ما هزمت أمام الروم، فسيطر الرومان على المدينة، ثم قامت ثورة شعبية ضدهم، فهدمها الرومان عقاباً لأهلها، وبعد استتباب الأمن، أعيد بناء الأسوار وأنشئت تحصينات جديدة للمدينة، وفي العهد الأموي استعادت تدمر مكانتها التجارية، وأهملت في العصر العباسي، وفي عام 1089 ضربها زلزال هدم معظم منشآتها، وزمن الاحتلال العثماني كانت تدمر مهملة بلا اهتمام.
نشاطات أهل تدمر التجارية رافقتها الزراعة التي حظيت باهتمام بالغ، فبنوا أقنية للري وحفروا الآبار، وشيدوا أحواضاً وخزانات، وقد جرّت زنوبيا الماء من نبع الفيجة في دمشق، عبر أقنية حجرية ما تزال بقاياها ماثلة، وبرعوا في النحت والرسوم الجدارية، وبنوا هياكل وقصوراً.
من أهم آثارها قلعة فخر الدين المعني الثاني التي تقع على تلة مرتفعة عما حولها، سميت باسمه أثناء توسعه في سورية، عندما قام بثورة ضد العثمانيين، ويُظن أنها تعود إلى فترة الحروب الصليبية، وهناك وادي القبور حيث لكل أسرة فيه مدفنها الخاص؛ إذ اهتم التدمريون بالمدافن اهتماماً خاصاً وعنوا عناية شديدة؛ لأنهم آمنوا بالحياة بعد الموت، وللمدافن ثلاثة أنواع: هي القبور البرجية المؤلفة من عدة طبقات، والقبور المنزلية المؤلفة من باحة واسعة محاطة بأروقة ذات أعمدة، وقبور الأقبية الثرية بالنقوش والزخارف حيث ينزل إليها بسلم حجري.
بيوتها ذات طابع شرقي، فيها حدائق ومدافن وأروقة، أبجديتها مؤلفة من 22 حرفاً، وكان شعب تدمر يتكلم الآرامية؛ وفقاً للمخطوطات التي عثر عليها، وطبقة النبلاء كانت تجيد اللاتينية واليونانية؛ ما يعكس الثقافة الواسعة والانفتاح الحضاري الذي كانت تعيشه المملكة.
تحوي تدمر متحفين، أحدهما يضم التحف واللقى الأثرية فيها، والآخر للتقاليد الشعبية للمنطقة.
تدمر اليوم مدينة حيوية هامة، يبلغ عدد سكانها مع ضواحيها أكثر من سبعين ألفاً، تتهددهم سكين داعش الدموية التي بدأت بجز أعناق بعض أهلها، ويبقى الحديث عن تدمر وآثارها غير محصور في سطور معدودة؛ إنما يحتاج ذلك كتباً وأسفاراً عديدة للإحاطة بتراثها الكبير.
المساهمون