تداعيات حول شرف برشلونة الضائع

28 سبتمبر 2016
مانولو ميلاريس/ إسبانيا
+ الخط -

يكتشف الواحد، وهو يمرق من شارع بائعات الهوى في الرابال، ذاهباً إلى محلّ الحلاق الهندي، شيئاً طريفاً، شيئاً لم يلفت نظر كبار المفكرين الاقتصاديين من قبل، أو ربما كان لفتَهم ولم يكتبوه، جرياً على القاعدة الأكاديمية: "ليس للطرائف حيّز في كُتب الاقتصاد"، أو على قاعدة أخرى أكثر شيوعاً: "ليس كل ما يُعرف يُكتب" (لا أعرف الوغد الأول الذي خطَّ هذه القاعدة، لا حباً بالله بل تكريساً للمصالح فقط).

ماذا كنت أقول؟ آه .. يكتشف، خصوصاً وهو راجع من عند الحلاق منتعشاً برشّة الكولونيا وبالسعر المحترم: 4 يوروات (وأحياناً يقبل الرجلُ بـ 3 يوروات وسبعين سنتا، لو قلت له إن هذا هو كل ما معك. بينما غيره من الحلاقين أبناء البلد لا يقنع بأقل من عشرة ولا يتوقّف عند أربعين)، أن الرأسمالية في طبعتها الأولى أخذت إلهامَها العظيم من جدّات هاته البائعات: عرْض وطلَب. ثم طوّرت، الرأسماليةُ لا المرحومات، من تقنياتها، تحت سُعار أو شِعار "فائض القيمة" المقدّس، فغدت تعدم جزءاً من المعروض، إذا قلّ الطلب، حفاظاً على ثبات السعر.

وهذا ما لم تتعلمه هؤلاء الحفيدات المسكينات، منذ بدأت جداتهنّ العمل قبل أن يبزغ نور التاريخ، حتى يوم برشلونة النيسانيّ المعتم هذا. فتراهنّ، وقد قلّ الطلب عليهنّ يلاحقنك على طول الشارع، مُدحرجاتٍ سعر عرضهنّ الضائع من فوق إلى تحت: أي من أربعين يورو إلى عشرة. بل يكدن يتوسلنك القبول، بخمس لغات عالمية لا شائبة في أيٍّ منها ـ ومنها ولا فخر لغتنا.

الرأسمالية، كما يمكن القول إذاً، ذات تفكير استراتيجي مُستلهم من أقدم مهنة في التاريخ. لذا على الواحد أن يعاود المرور في هذا الحيّ، كل ثلاثة شهور، كي يجمع الحُسنيين معاً (يُصلّح شعَره، ويطوّر جنين فكرته الكئيبة)، ثم يتريّث "بزاف" قبل أن يخرج على القرّاء بهيّاً، متمكّناً من موضوعه، حاشداً له كل ما يلزم من مقدمات وحواشٍ ومراجع.

وبعد أن تنال أطروحته درجة الامتياز مع مرتبة القرف، من لجنة مُحكّمين ثقات في جامعة بومبيو فابرا، يُلقيها غير نادم، في أول حاوية زبالة تصادفه على كوربة شارع الرمبلا وهو ماشٍ إلى اليسار.

فالحكاية يا إخوان لا تنقصها أطاريح، لسببين مركزيين: الأزمة الاقتصادية الخانقة التي ناءت بكلكلها على شبابهم، فدفعت غير صاحب أطروحة للعمل على غير مُرجيحة. وخروج الواحد لتوّه من مكان يعجّ بالمطروحات على قارعة الطريق (مثل "الأفكار" عند حبيبنا الجاحظ) جالسات يتشمّسن وينفثن دخان السكائر، أو واقفات يحككن رؤوسهن ويكششن ذباباً معنوياً في وجه الشرطة، مع إزجاء الكثير من زفرات الكربون المؤكسد في الجو.

أمرّ عنهن وأحييهن واحدة واحدة، تعاطفاً مع فشل غير المركزيين من أمثالنا في الثأر لأنفسهم، من غرب استعلائي، يحكمه أوليغاركُ الرأسمال.



المساهمون