أعادت جريمة إخفاء و/أو قتل الصحافي السعودي المعارض، جمال خاشقجي، داخل القنصلية السعودية في مدينة إسطنبول في تركيا، وثبوت تورط النظام السعودي، طرح سؤال حول الدور الأميركي، تحديداً سياسات الرئيس دونالد ترامب، في السماح للنظام السعودي بالتمادي في الانتهاكات وإسكات جميع الأصوات المعارضة من جهة، والتداعيات المفترضة على النظام، وتحديداً طموحات ولي العهد محمد بن سلمان، من جهة ثانية.
ومع توالي صدور الأنباء عن جريمة اختفاء و/أو قتل خاشقجي، أبدى الحليف الأكبر لبن سلمان، أي ترامب، قلقه من أزمة الاختفاء، قبل أن يعلن أمس عن تواصله مع المسؤولين السعوديين بشأن القضية، فيما قال نائب الرئيس الأميركي، مايك بنس، معلقاً على موقع "تويتر"، "أنا منزعج بشدة لسماع تقارير حول الصحافي السعودي جمال خاشقجي. إذا كان هذا صحيحاً فهو يوم مأساوي، والعنف ضد الصحافيين في جميع أنحاء العالم يشكل تهديداً لحرية الصحافة وحقوق الإنسان". وأضاف "العالم الحر يستحق إجابات" في إشارة لمطالبته السلطات السعودية بتقديم توضيحات. وردّاً على سؤال في برنامج إذاعي عما إذا كانت واشنطن سترسل خبراء فنيين من مكتب التحقيقات الاتحادي إلى القنصلية السعودية في إسطنبول إذا طلبت الرياض ذلك، قال بنس، "أعتقد أن الولايات المتحدة الأميركية مستعدة لتقديم المساعدة بأي شكل". كما طالب رئيس مجلس النواب الأميركي، بول رايان، الحكومة السعودية بتقديم حقائق واضحة حول مصير خاشقجي وأعلن تضامنه مع الصحافيين. كما قال إنه سيكافح من أجل الحصول على أجوبة لتحقيق الشفافية والمحاسبة في مثل هذه القضايا.
ردود فعل الرئيس الأميركي ونائبه ورئيس مجلس النواب بدت فاترة مقارنة بردود فعل سيناتورات مجلس الشيوخ. أما السبب فأجابت عنه تقارير صحافية عدة، بينها مقال لهيئة تحرير صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية بعنوان "كيف أسهم ترامب في انتهاكات ولي العهد السعودي". وأوضحت أنه "قبل عامين لم يكن أحد يتصور أن حكام السعودية، الحليف الوثيق للولايات المتحدة، سيُشتبه بهم في خطف أو قتل أحد منتقديهم، وهو الذي عاش في واشنطن وكتب بصورة دورية في صحيفة واشنطن بوست، أو أنهم سوف يجرؤون على تنفيذ مثل هذه العملية في تركيا، الحليف الآخر للولايات المتحدة والعضو في حلف شمال الأطلسي". وأشارت إلى أن ما جرى يمكن أن يعزى إلى صعود محمد بن سلمان، الذي وصفته بالحاكم الفعلي، والذي أثبت أنه متهور نتيجة طموحه، وأنه قد يعكس تأثير الرئيس الأميركي، الذي شجع ولي العهد السعودي، على الاعتقاد، خطأً بحسب ما نعتقد، أنه حتى أكثر مشاريعه غير الشرعية ستحظى بدعم أميركي.
وقارنت الصحيفة بين أداء إدارة ترامب وإدارة الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، تجاه السعودية، قائلة إن الأخيرة نأت بنفسها عن القيادة السعودية بسبب معارضتها للاتفاق النووي مع إيران، والتدخل السعودي في اليمن، لكن ترامب، وفور توليه منصبه، تحرك بشكل درامي لترميم العلاقات، وجعل الرياض الوجهة الأولى لزيارته الخارجية، وسرعان ما استسلم لعروض الولاء التي انهالت عليه من القيادة السعودية، وما رافقها من وعود بصفقات ضخمة لشراء الأسلحة. وأشارت إلى أنه على "عكس الرؤساء السابقين، لم يُثر ترامب قضايا حقوق الإنسان مع القادة السعوديين، على الرغم من أن ولي العهد سجن المئات من النشطاء الليبراليين، بما في ذلك النساء اللواتي دافعن عن حق المرأة في القيادة". وأوضحت أنه عندما اعتقل النظام السعودي عشرات من رجال الأعمال وأفراد الأسرة الحاكمة، أواخر العام 2017، في ما يشبه الفخ الجماعي، والذين تم الإفراج عن معظمهم بعد تسليم جزء من أموالهم، وافق ترامب على ما جرى بتغريدة على "تويتر"، قائلاً "لدي ثقة كبيرة في الملك سلمان وولي العهد. إن الملك سلمان وولي العهد يعرفون بالضبط ما يفعلونه". وتتساءل الصحيفة في افتتاحيتها "هل يمكن أن يكون هذا السجل من الدعم الأميركي قد شجع ولي العهد السعودي للاعتقاد بأنه يستطيع اتخاذ إجراءات جذرية لإسكات أحد أبرز منتقديه دون الإضرار بعلاقاته مع واشنطن؟". وتضيف "إذا كان الأمر كذلك، فإن رد الإدارة حتى الآن لم يكن ليغير استنتاجه". وأشارت إلى أن ردود فعل أعضاء الكونغرس بدت أقوى، ولا تقتصر على التعبير عن القلق والدعوة إلى التحقيق من دون أن ترقى إلى توجيه أي إدانة، على غرار ما فعل مسؤولو إدارة ترامب. وبعدما تطرق إلى قول أحد أعضاء مجلس الشيوخ أنه إذا ثبتت صحة ادعاء تركيا بقتل خاشقجي فإنه "يجب أن يفضي ذلك إلى تغيير جوهري في العلاقة مع السعودية"، أكدت "أن هذا الرد هو الصحيح".
بدوره كتب الصحافي في موقع "ميدل إيست آي" البريطاني، ريتشارد سلفرشتاين، مقالاً عبارة عن سؤال "ماذا سيفعل ترامب بخصوص جمال خاشقجي؟"، قال فيه "عندما يتم قتل مواطن أميركي على أرض أجنبية، لا يعبر الرؤساء الأميركيون عن القلق. نادراً ما يعبرون عن الغضب والإحباط. إنهم يطالبون بالمساءلة. يحذرون من التداعيات. لكن في قضية خاشقجي لم يفعل ترامب أياً من ذلك. إن رغبته أن تسير الأمور بنفسها" أي كأنه يقول للسعوديين "ليس هناك ما يجب أن تخشوه منا. سنقف إلى جانبكم". وبعدما أشار إلى أن قضية خاشقجي تظهر سمة ولي العهد السعودي الذي أظهر نفسه عنيداً ومتهوراً، مستعرضاً عمليات الاعتقال والسجن التي قام بها، بما في ذاك احتجاز رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، فقد أشار إلى أنه من غير المرجح أن تمارس الولايات المتحدة، في ظل ترامب، أي ضغوط على السعوديين كي يتطرقوا إلى ما حدث لخاشقجي. وهو ما تشير إليه تصريحات ترامب بشأن القضية. ولفت إلى أنه بالنسبة إلى ترامب فإن لا شيء يهمه من كل هذا، فهو يهتم بشيء واحد "إنجاز صفقات بيع الأسلحة والوظائف التي ستوفرها. هذا كل شيء، ولا اعتبار لحقوق الإنسان أو حتى ذلك المبدأ الأميركي المقدس (الديمقراطية). لكن ترامب هو الأول الذي لا يعطي اعتباراً لذلك".
وعلى عكس موقف مسؤولي إدارة ترامب، جاءت مواقف أعضاء في مجلس الشيوخ صارمة في انتقاداتها ومحذرة من تداعيات القضية. وقال السيناتور بيرني ساندرز، في كلمة له في جامعة "جون هوبكنز"، "هناك اعتقاد أن النظام السعودي قتل خاشقجي داخل القنصلية في إسطنبول، وأن جثته تم التخلص منها في مكان آخر، ونحن بحاجة إلى معرفة ما حدث. ولو ثبتت هذه الرواية فيجب أن تكون هناك محاسبة وإدانة كاملة من جانب الولايات المتحدة". وأضاف ساندرز منتقداً "يبدو أن محمد بن سلمان يشعر بالقوة بسبب نظام الرئيس ترامب". من جهته، قال السيناتور الجمهوري، ماركو روبيو، على موقع "تويتر"، "أُصلّي من أن أجل أن يكون الصحافي السعودي جمال خاشقجي على قيد الحياة، ولكن إذا ثبت هذا التقرير الإخباري المزعج (حول مقتله) فيجب على الولايات المتحدة والعالم المتحضر أن يتخذا ردة فعل قوية وسأستعرض جميع الخيارات في مجلس الشيوخ".
بدوره، هاجم السيناتور الجمهوري البارز في لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ، ليندسي غراهام، السعودية، موضحاً أن عليها تقديم إجابات صادقة حول مصير خاشقجي. وأشار إلى أنه اتفق مع رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ، بوب كروكر، وكبير الديمقراطيين فيها، بن كاردن، بأنه في حال تأكدت هذه الاتهامات فإن ذلك سيكون مدمراً للعلاقات بين السعودية والولايات المتحدة الأميركية. وقال العضو في مجلس الشيوخ، راند بول، إنه سيصوت بالرفض على أي صفقة سلاح مع السعودية رداً على اختفاء خاشقجي. وقال كروكر، الذي يشغل رئاسة لجنة الشؤون الخارجية، في مقابلة مع صحيفة "الديلي بيست"، إن "الرواية السعودية غير مقنعة، وكل شيء يشير اليوم إلى أن الصحافي جمال خاشقجي قُتل داخل القنصلية السعودية في إسطنبول". وأضاف كروكر، في مقابلته التي وُصفت بالمدوية كونها دانت النظام السعودي بشدة، "اطلعت على معلومات استخباراتية سرية تؤكد مقتل خاشقجي داخل السفارة، وأبلغت السفير السعودي في واشنطن أنه من الصعب تصديق أن نظام مراقبة أمني لا يسجل كاميرات المراقبة، فرد عليّ قائلاً إنه لم يكن يعمل بشكل سليم وأن البث الحي كان يعمل فقط". كما وصف كروكر محادثته مع السفير السعودي في واشنطن خالد بن سلمان بأنها "غير رائعة".
في موازاة ذلك، شنت الصحف الأميركية الكبرى حملة شديدة ضد النظام السعودي وولي العهد محمد بن سلمان، إذ واصلت "نيويورك تايمز" نشر المقالات والتقارير التي تثبت صحة اتهام القنصلية السعودية بقتل وتقطيع جثة خاشقجي، فيما نشر توماس فريدمان، وهو الصحافي الذي حصل على حق مقابلة ولي العهد السعودي العام الماضي ومنحه مجالاً للحديث حول "إصلاحاته"، مقالاً بعنوان "الصلاة من أجل خاشقجي"، أكد فيه أن سياسة ولي العهد محمد بن سلمان خاطئة وقد تدفع الشباب إلى التطرف مستقبلاً. وتقول سارة مارغون من منظمة "هيومن رايتس ووتش" إن الإدارة الجمهورية وكأنما تقول "لهؤلاء الذين ينتهكون حقوق الإنسان والقادة الطغاة: افعلوا ما يجب عليكم فعله، سنحول أنظارنا إلى مكان آخر". وبعدما عبرت عن أسفها لرد فعل متأخر وفاتر، أشارت إلى أن واشنطن "تملك أدوات للرد سريعاً، إنها مسألة إرادة سياسية". وشاطرها الدبلوماسي السابق آرون ديفيد ميلر الرأي نفسه، قائلاً، في تغريدة، "عبر عدم انتقاد ولي العهد السعودي أبداً بشكل علني، وخصوصاً بشأن القمع الداخلي، إنما تكون إدارة ترامب شجعته بإعطاء انطباع بأنه يمكنه القيام بما يحلو له".
ويسود اعتقاد أن جريمة اختفاء و/أو اغتيال خاشقجي قوضت عشرات الحملات الإعلانية التي قام مستشارو ولي العهد السعودي بتطويرها والعمل عليها طوال الأشهر الماضية في واشنطن ولندن وعواصم الاتحاد الأوروبي، إذ مثلت الحملة الشرسة نهاية لأسطورة "الإصلاح الاجتماعي" التي كان بن سلمان يروج لها. ورغم تعرض بن سلمان لحملات مكثفة في أوروبا وكندا نتيجة حملات الاعتقال التي قادها ضد الناشطين السياسيين في بلاده، بالإضافة إلى دور بلاده الدموي في حرب اليمن، فإنه بقي منيعاً داخل أروقة صناعة القرار في واشنطن، لكن التصريحات الأخيرة للقادة الجمهوريين، الذين عُرف عنهم ميلهم الدائم للسعودية، توحي بأن الأمور لم تعد كما كانت في الأول. وبدا السفير السعودي في واشنطن خالد بن سلمان، وهو شقيق ولي العهد وأحد أبرز المقربين منه، مرتبكاً في اتخاذ القرارات والرد على الصحافة والإعلام الأميركي الذي استمات في الدفاع عن خاشقجي بسبب العلاقات النافذة التي كان يملكها داخل أروقة الإعلام وسمعته كصحافي مرموق.