تحويل العالم إلى وجه

14 ابريل 2015
+ الخط -
وأنا صغير، أتجول في أزقة المدينة العتيقة بمدينة فاس، بتعرجاتها وضيقها واكتظاظها بالمارة، كانت تستوقفني صور كثيرة أتأملها بالإعجاب تارة وبالافتتان أخرى. كانت صورا أغلبها بالأبيض والأسود لكوكب الشرق أم كلثوم، وللعندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، كما لجمال عبد الناصر ومحمد الخامس وغيرهم. صارت تلك الوجوه أقرب إلي، انطبعت في الذاكرة. كانت تلك أولى الصور التي فتحت عليها عيني. في ما بعد وأنا أشتغل على تاريخ الصورة، أدركت أن البورتريه الفوتوغرافي كان في بلاد المغرب، التي لم تعرف الهيمنة العثمانية ولم تبسط يدها عليه، قد عرف حداثته البصرية بالبورتريه الفوتوغرافي، الذي صار متداولاً في الأوساط العالمة، بحيث صار يتعامل معه كما لو كان بطاقة بريدية.

البورتريه الفوتوغرافي إعلان للذات ولولادتها. إنه أعمق من المرآة وأقل منها نرجسية لأنه كما كان يسميه الكتاب آنذاك رسم للذات، أي أثر لها. ففي الوقت الذي كان فيه علماء الإسلام يتعوذون من
قول أنا، صارت الصورة الشخصية معلنة للذات في كينونتها البصرية.
لهذا فالوجه هوية الجسد وموطن كيانه الروحي. ولهذا الغرض لم يحرم الإسلام النصي تصوير الجسد كاملا بل أمر بطمس هويته أي بإتلاف ملامح الوجه. بل لهذا الغرض يلجأ المتطرفون الإسلاميون إلى قطع رؤوس المنحوتات في الوقت الذي يروى أن نبي الإسلام بقرها رمزيا، أي أبطل مفعولها التأليهي. أما المنمنمة الإسلامية فلم تنبن على المحاكاة والتدقيق في الملامح. الوجوه فيها تتشابه والملامح تتناظر لأن ما يهم ليس هو المرجعية المحاكاتية بقدر ما تهم المشْهدية.

ندين بأولى البورتريهات في تاريخ الفن العربي للفنانين المسيحيين الذين انطلقوا في مرجعيتهم من الأيقونة ليرسموا بورتريهات بالغة الواقعية. من ثم كان البورتريه أصل الفن في بلداننا العربية، وإعلانا جعل من الكيان الإنسان اللحمة التي انبنى عليها ذلك التاريخ. ثم صار البورتريه يندرج في رسم الكائن في وضعياته المختلفة، كجسد فاتن لدى محمود سعيد أو كشخصيات تنضح بالبؤس والمأساوية لدى لؤي كيالي... أو كأيقونات جديدة ورمزية في الفن الفلسطيني عموما.
تحول البورتريه من الوجه إلى الجسد، كما لو أنه بذلك ينسلخ عن الشخصي كي يرتاد الأفق الاجتماعي. فجاءت بورتريهات فنانين كثيرين من قبيل لؤي كيالي لترصد الجسد في وضعياته المعبرة عن الفقر والعزلة والبؤس والمأساوية. وفي هذا السياق تشكل تجربة الفنان مروان السوري المقيم بألمانيا إحدى التجارب الرائدة في استكشاف الجوانب الخفية للبورتريه. وجوه تنسكب من اللوحة في هشاشة قاسية، تتداخل فيها الملامح مثل تضاريس تتشكل أمام أعيننا. وجوه مليئة بالمأساة وبالسخرية، تحتمي من نظرنا ببشاعتها الغامرة. صار الوجه مجالاً لإعادة صياغة تشكيلة الجسد والعالم، وأشبه بالمرآة المشوهة التي تفصح عن لاوعي الجسد. هذه الشخصيات تعبر أكثر مما تقدم لنا وجودا وملامح. تحتمي من نظرنا بوعورة مسالك روحها، وتتمنَّع عن النظر بفرادة انفلاتها...
في الآونة الأخيرة، صرنا نلحظ عودة صارخة للبورتريه بأشكال مختلفة، لدى مروان وآدم سبحان وسيروان، في طابع تعبيري كما لدى عادل السيوي ومحمد أبو النجا وغيرهم....

هذا الولع بالوجه إن كان لدى السيوي وأبو النجا استعادة للذاكرة واحتفاء تشخيصيا بمعالم اخترقت فضاءنا الثقافي (أم كلثوم، سعاد حسني) فإنه يشكل في نظرنا استعادة للذات من حيث هي حضور. فإذا كان الفنانان المذكوران قد أبانا في مراحلهما السابقة عن تعامل تجريدي إلى هذا الحد أو ذاك مع الظواهر التي يتناولانها في أعمالهم، فإن استيحاءهما للذاكرة يتم اليوم من خلال ضرب من المحاكاة يتوسل بالرسم والتشكيل لدى أحدهم فيما يستبيح لنفسه استعادة الصورة المتداولة للشخصية لإعادة تأويلها بشكل خصوصي لدى الثاني.
لدى أبو النجا تندمج الصورة المستعادة عبر السيريغرافيا في محيط من الكولاجات البصرية التي تجعل الصورة تبدو كما لو أنها تتلاشى في الزمن. وهكذا فإن هذا الطابع المرجعي للوجه يأتي من ضرورة التواؤم بين الشخصية وتصويرها وفقا لأسلوب شخصي. تتوالى الاسترجاعات وكأنها تعبر عن حنين للأيقونة. غير أن الأيقوني هنا يترك المكان لتماس حسي مع الصورة يجعلنا نعيش تجربة الاستعادة باعتبارها اختراقا لحدود الزمن.

إن أم كلثوم لدى عادل السيوي تبدو لنا بشعر وردي، وماري منيب تحتضن الدواجن، وإسماعيل ياسين يحلل اللوغارتمات، فيما شادية تكاد تكون فاكهة. قد تتقاطع لوحة "نجوم عمري" للسيوي مع تجربة معاصره الفنان المصري الأرمني شانت أفاديسيان الذي اشتغل على بورتريه الشخصيات السينمائية والسياسية المصرية في الفترة ذاتها، في مجموعة "علاقات غرامية" (2004). غير أن الأخيرة تعطي بعداً سياسياً واجتماعياً وربما تاريخياً عبر استخدام الرموز الفرعونية والنماذج الإسلامية؛ فيما ينحو السيوي إلى تقديم نجوم عمره كما يراها بشكل ذاتي وشخصي وكما تخيّلها على نحو طفولي، بالرغم من أن بعض النقاد اعتبروا هذه المجموعة أقرب إلى الـ"بوب آرت" منها إلى ما عودنا عليه السيوي.

فيما وراء أي طابع مرآوي، يغدو الوجه الشخصي والجسد الشخصي موردا وموئلا للذات، ومن خلالها لمساءلة الآخر. فحين يرى الفنان العالم من خلال وجهه، يحول العالم إلى وجه. يتماهى الوجه الشخصي مع العالم كي يشكلا مساحة جديدة من خلالها ينطلق الفن إلى ارتياد شساعة الكون اللامحدودة. الوجه هنا معلم يمكّن من تفادي التيهان في اللامحدود. إنه الأصل الذي به نرى ونُرى، والمنتهى الذي من خلاله نوجد في الفن بحواسنا كاملة.
المساهمون