ربما لا توجد مدينة يظلّ فنانوها يتساءلون حولها، ويفكرون في مآلاتها بقدر ما يحدث لـ بيروت، حيث لا يكاد يمر شهر دون أن نجد فعالية، سواء أكانت محاضرة أو معرضاً تحمل اسم المدينة، وتقلب في دفاترها القديمة والراهنة والمستقبلية.
بيروت مدينة إشكالية، سيقول أحدهم أليست كل مدينة كذلك؟ وربما تكون الإجابة بلى، لكن بيروت معقدة أكثر من سواها، لعدة أسباب تعود لنظامها السياسي وتاريخها الثقافي وطبيعتها الاجتماعية، وفوق كل هذا لأنها مدينة خرجت من الحرب ولم تخرج تماماً، مدينة تضع قدماً في العنف وأخرى في الفن.
تحت عنوان "مؤقت: تحوّلات المدينة من 1870 إلى 2052"، انطلق المعرض الذي ينظمه "بيت أمير" صباح الرابع من الشهر الجاري، ويتواصل حتى 13 من كانون الثاني/ يناير المقبل، بمشاركة كل من الفنانين نديم أصفر، ومها نصر الله، وأنطوان عطا الله، وأليكس بلدي، وألفونس غارابديان، وعبد الله حاطوم.
المعرض يجمع صوراً بانورامية لأكثر من فنان ومعماري ومصوّر لبناني، مأخوذة من 100 سنة إلى اليوم، من نفس النقطة وهي بناية "العيزرية" في بيروت، لتُظهر تحوّل المدينة عبر العقود.
تقول الفنانة نصر الله في حديث لـ"العربي الجديد"، إن مشاركتها في المعرض تقوم على مجموعة "استكتشات" رسمتها على مدار عام ونصف بدأت في 2016، وهي تتجول بين البيوت المهجورة التي تعرفها المدينة، ترسمها سريعاً لحفظ ذاكرتها.
وتتابع "العملية التي أقوم بها تبدأ بتحديد تلك البيوت من بين المباني الطاغية بحجمها، ثم أستفرد بهذه البيوت عن سواها من المباني المحيطة بها، في محاولة لتخيّل مدينة زائلة. أما غايتي من هذا العمل فهي لفت الانتباه إلى ما يحدث من تحولات وحفظ هذه البيوت على الورق، وحفرها في ذاكرتي والذاكرة الجماعية لتثبيت وجودها والإضاءة على خصوصياتها".
وحول تركيز الفنانين والمعماريين والباحثين على عمارة بيروت، كموضوع في العقد الأخير تبيّن نصر الله: "المدينة تنمحي أمامنا ونحن نتفرج عليها، إن هذه المباني التي تهدم وتهجر تشكل ذاكرتنا، حتى وإن كنا لا نملكها، وقد ساهم التطور العمراني العشوائي في محوها. في رأيي تسعى هذه الحركية التطوعية إلى تثبيت حالة بيروت، يساهم فيها كل منا في مجاله. ثمة وعي متزايد بضرورة إسماع صناع القرار نيتنا وصوتنا، الذي يريد أن يحافظ على ذاكرة المدينة قبل أن تختفي".
بدوره يتفق المعماري والمتخصص في التخطيط العمراني أنطوان عطا الله مع نصر الله، ويقول: "بيروت حالة تستحق الدراسة، وهناك من يريد أن يشارك في الكيفية التي تتطور بها المدينة، التغيرات في بيروت سريعة جداً، وكثيراً ما تتم مقارنتها بشكل غير محق ببرلين وسراييفو". يكمل "في رأيي بيروت نموذج لمدينة تستحق الوقوف عندها لأنها: مدينة عربية منفتحة على الغرب، مدينة فاسدة جداً، فيها مجتمع مدني أصبح يزداد قوة، ونخبة ثقافية حاضرة، فيها شيء يغلي ويعطيها طاقة".
وعن مشاركته في "مؤقت: تحولات المدينة" يوضح عطا الله "أنا لست فناناً، لكني كمعماري لدي اهتمام منذ سنوات بالبحث في تاريخ بيروت وتخطيطها، لدي خرائط وصور قديمة لذلك قمت بعمل صور بانورامية بطول خمسة أمتار أروي عبرها حكاية هذه المدينة، أضفت إلى الأبنية الفعلية مئات البيوت التي انمحت ولونتها بالأبيض لنتخيل المدينة لو نمت بشكل طبيعي".
يعود المعرض تاريخياً إلى بيروت عام 1870، ويقف مطولاً عند المدينة عام 1952، عن ذلك يوضح عطا لله "هذه القطعة من البانوراما مهمة جداً لأنها تمثّل صورة المدينة قبل الحرب بقليل، المدينة التي كان يبنغي أن تكون عليها معظم بيروت اليوم لو لم تقع الحرب، ولو لم يمح مشروع السوليدير 80% من وسط المدينة"، بمعنى أن بيروت اليوم لم تكن لتفقد الكثير من نفسها في الخمسينيات لو أن المدينة عاشت نمواً منطقياً ولم يحدث لها هذا الانقطاع التاريخي بسبب الحرب ثم الإعمار".
يتابع المعرض تصوّر بيروت إلى أن يصل إلى عام 2052، حيث قام الرسّام أليكس بلدي برسم تصوّر بانورامي بطول 5 أمتار أيضاً، لمستقبل بيروت كما لو أنها مدينة لم تعرف الحرب، حيث نرى مدينة أكثر توازناً أقل عشوائية وأكثر أشجاراً.